عبدالرحمن بن عبدالله النور
في صباح يوم الخميس عيد الأضحى العاشر من رمضان من هذا العام 1436 هـ فجع المسلمون بخبر حدوث تدافع في أحد شوارع منى وهو الشارع 204 وحدوث وفيات وإصابات وصلت في رقمها النهائي إلى ما يقرب من 717 حالة وفاة وإلى 863 إصابة،
كانت فاجعة بحق أزعجت الجميع والسبب أن الحج لم يشهد مثل هذه الكارثة لسنوات عديدة منذ أن طورت عملية رمي الجمرات بإنشاء جسر الجمرات الجديد بأدواره المتعددة.
كانت أكثر مشاكل الحج التي تتكرر باستمرار تتمحور حول رمي الجمرات نظرا لأنها منطقة تتجمع فيها الحشود بشكل كثيف حول دائرة الجمرة للرمي، وكان السؤال المطروح حينها كيف يمكن إدارة تلك الحشود الكثيفة لمنع تلك الحوادث؟
بني أول جسر لرمي الجمرات عام 1975 ولكن مع زيادة أعداد الحجاج الهائلة لم يعد في قدرة ذلك الجسر استيعاب تلك الأعداد وبسبب تلك الزيادة الهائلة تكررت حوادث الحشود لأنه أصبح لها خصائص هندسية مرتبطة بطبيعة حركة الحشود الكبيرة مما ساهم أيضا في تكرار حوادث رمي الجمرات، وقد تبنت الحكومة السعودية في عام 2006 فكرة إنشاء أدوار متعددة لاستيعاب الأعداد الهائلة من الحجيج مع فكرة هندسية عبقرية بدراسة خصائص تلك الحشود واتضح أن الشكل الدائري للجمرات يسهم بشكل كبير في تشكيل عقد حول دائرة الجمرة وهذه العقد تمنع انسيابية الحركة، خصوصا حين تصل كتلة الحشود إلى الكتلة الحرجة، وأن هذه العقد تسهم في تداخل الحجاج في بعضهم البعض فيما يشبه الدوامة المائية مما يزيد في قوة التدافع وحدوث الإصابات، هذه المسألة هي مسألة هندسية في المقام الأول وهي تخص علم هندسة الهيدروليكا وهو علم يدرس خصائص حركة السوائل والواقع أن من يراقب حركة تدفق الحشود الهائلة فهي تشبه حركة سيل أو موج من المياه، ولذلك تم محاكاة حركة تلك الحشود ووجد أن الشكل البيضاوي، وهو الشكل الذي يراه رامي الجمرات الآن، هو أكثر انسيابية للقضاء على مشكلة تكون العقد الهيدروليكية التي تمنع انسيابية الحركة حول الجمرة.
كانت الهدف من فكرة كثرة الأدوار وكثرة المداخل والمخارج لمنع وصول كتلة الحشود إلى الكتلة الحرجة ولمنع تعارض الحركة، لكن لم تكن هي الحل فقط؛ بل كان جوهر فكرة حل المشكلة هو في فهم تكون مثل تلك العقد الهيدروليكية بسبب تدافع الحشود، وهذا هو الحل الهندسي الشامل، ولذلك لم نسمع عن حوادث تدافع الحشود في منى على مر تلك الأعوام السابقة لأنه تم حل المشكلة بشكل جذري وعلمي شامل.
يعتبر جسر الجمرات الجديد علامة وشهادة هندسية ومفخرة تشهد للحكومة السعودية على مر التاريخ ما تبذله في سبيل تيسير الحج لحجاج بيت الله الحرام وقدرتها على حل مشاكل الحج ولا ننس كيف تم حل مشكلة حرائق الخيام بمنى ولم نعد نسمع عنها بفضل الله تعالى، فكيف تم إنشاء ذلك الجسر؟
أنقل للقارئ الكريم هذا الخبر عن الجسر والمنشور على صفحة جريدة الرياض في يوم الاحد 21 رمضان 1432 هـ - 21 اغسطس 2011م - العدد 15763، بعنوان (جسر الجمرات .. إنجاز استثنائي لإدارة الحشود) يقول الخبر:
« يبلغ طول جسر الجمرات 950 متراً وعرضه 80 متراً، ويتألف من خمسة طوابق كل طابق يبلغ ارتفاعه 12 متراً، ويوفر المشروع 12 مدخلاً و 12 مخرجاً من الاتجاهات الأربعة، وقد تم إضافة منافذ طوارئ في حالة تدافع الحجاج واختناقهم.
وقد تم تعزيز السلامة بوضع كاميرات مراقبة تعمل باستمرار في جميع أنحاء المنشأة وفي منطقة تدفق الحشود، تسمح بالتدخل السريع وتعزيز السلامة، وأيضاً توفير الخدمات الطبية إذا دعت الحاجة، كما تم توفير مهبطين للطائرات المروحية وذلك لتسهيل هبوط الطائرات في حالات الطوارئ.
ويشمل مشروع جسر الجمرات أيضاً نظام تكييف مدعوم بمرشات المياه التي تساعد على تلطيف الأجواء والتقليل من درجة الحرارة إلى قرابة 29 درجة مئوية، وفي المستوى الخامس تم إضافة مظلات كبيرة لتغطية كل موقع من مواقع الجمرات الثلاث، وذلك لتعزيز راحة الحجاج وحمايتهم من أشعة الشمس.
برنامج الهدم والبناء الذي استغرق عدة سنوات كان مطلوبا فيه ألا يتداخل مع قدرة وإمكانية أداء الحجاج فريضة الحج وهدم البناء القديم واستبداله بأبنية ضخمة ومميزة في مشروع ممتد لعدة أعوام من دون تعطيل أحد أهم مناسك الحج السنوية مثّل عائقاً كبيراً لإنجاز المشروع وتحدياً لإنهائه في وقت ضيق، مع ما تطلبه من إيقاف للحركة والبناء في الموقع خلال مواسم الحج.
تطلب المشروع توفير قوى عاملة مدربة وخبيرة بلغت أكثر من 11،000 عامل تم توزيعهم على أجزاء مختلفة من المشروع، حيث تم تجهيزهم بأحدث المعدات لتنفيذ أعمال ومهام ضخمة وبأداء فاعل وسريع في وقت ومكان ضيقين.
ملايين الأمتار المربعة من البناء الهادف لتوفير الموارد من المواد المسبقة الصنع كان لها الدور الرئيسي في إنجاح تنفيذ المشروع.
ساهم تقسيم البناء إلى 6 أقسام مستقلة يتم تنفيذها في ذات الوقت في تسريع عملية البناء بشكل كبير، وتخطي الكثير من العقبات والتحديات لإنجاز العمل في الوقت المتفق عليه. في أول 9 أشهر، تم الهدم وتجهيز الموقع للمرحلة الأولى استعداداً لموسم الحج في تلك السنة، وشكل ذلك تحدياً مبدئياً حيث تطلبت تلك العملية العديد من الموارد والمعدات للهدم وإخراج ونقل المخلفات والمواد، وقد بلغ عدد المعدات المستخدمة أكثر من 79 حفارة و 12 رافعة و250 شاحنة تفريغ.
تم تنفيذ مراحل بناء جسر الجمرات في الأوقات المحددة لها مع إتاحة المجال للحجاج للقيام بمناسك الحج في أمان وراحة تامة، وقد تطلب الإسراع في البناء والانتهاء من المرحلة الأولية في السنة الأولى الانتهاء من العمل في القبو الجديد في أقل من 9,5 أشهر ولعب استعمال أنظمة البناء الافتراضي دوراً أساسياً في تعزيز تفهم فريق العمل للاختيار الأفضل، حيث تم توظيف تقنيات متطورة في عملية البناء الافتراضي لهذا المشروع من أجل ضمان الحد الأقصى للتخطيط والسيطرة على العمليات، وتحقيق الأهداف في الإطار الزمني المحدد.
وقد ورد أيضا في مقدمة الخبر أعلاه ما يلي:
«وقد تم تصميم مشروع جسر الجمرات لتلبية احتياجات الحجاج الحالية والمستقبلية، والحاجة المستمرة إلى التوسعة حيث صمم هيكل الجسر ليصل إلى 12 طابقاً، إذ من المتوقع أن يستخدمه ما يزيد عن 5 ملايين حاج في المستقبل إن شاء الله».
أذكر ما ذكرت أعلاه للقارئ الكريم الذي لا يعلم ما هي التحديات التي واجهت الحكومة السعودية في حل معضلة تكرار مشكلة الحشود عند الجمرات للتأكيد على القدرة والخبرة السعودية المحلية في حل مشكلات الحج ونظرتها المستقبلية في تطوير الخدمات المقدمة لحجاج بيت الله بفضل ومنة وتوفيق من الله العلي القدير، وهذا أمر يجب أن تشكر عليه الحكومة السعودية.
الآن وقد حدث ما حدث وأمر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ووفقه إلى كل خير بمراجعة خطط الحج، أرى من المناسب الاستفادة من علوم الهندسة المختلفة في حل مشكلة إدارة تدفق الحشود بين المشاعر كلها من منى إلى عرفة إلى مزدلفة والعودة من مزدلفة إلى منى لرمي الجمرات، وأن لا يكون الحل جزئيا بل يكون حلا هندسيا بنظرة شاملة، خصوصا وأنه من المتوقع بعد التوسعات التي تمت في الحرم أن يصل عدد الحجاج في السنوات القادمة إلى ما يقرب من 5 ملايين حاج وهو رقم كبير جدا ويمكن لنا أن نتخيل مستوى وحجم التحديات المتوقعة إن لم يتم دراسة حركة حشود هذا الرقم الهائل من الآن والاستفادة مما حدث في منى كدرس للعبرة و لبناء الخطط المستقبلية.
من هذه العلوم الهندسية علم هندسة الهيدروليكا كما شرحت وعلما آخر لا يقل أهمية هو علم هندسة المرور وتطبيقه على المركبات وعلى حركة مرور الحجاج المشاة أيضا في تدفقهم بين المناطق الحرجة في المشاعر.
كيف يمكن الاستفادة من علم هندسة الهيدروليكا في منع تدافع الحشود؟
قبل خمس سنوات تقريبا كتب الله لي أن أحج إلى بيته وقد رأيت لكسب الوقت أن آتي إلى الجمرات من مزدلفة مشيا على الأقدام، و أثناء هذه الرحلة وكنت أسير في شارع يبلغ عرضه تقريبا 30 مترا، أي لم يكن شارعا ضيقا جدا، صادف أن أحدهم أوقف عربة (دينا) على جانب الطريق وكان بها بعض العمال لتوزيع علب الماء والعصير على الحجاج المارين بذلك الطريق ؛ مما جعل كثيرا من الحجاج المشاة يتجهون إلى تلك العربة والوقوف أمامها للحصول على الماء أو العصير، كان الأمر يشبه إلى حد كبير ما يحدث حول دائرة الجمرة، وقد كادت أن تتشكل العقدة الهيدروليكية التي ذكرت ويتدافع الناس خلفها لولا أن لطف الله عز وجل بنا وبدأ بعض الحجاج بدفع الصفوف الأمامية وإجبارها على التحرك إلى الأمام والصراخ عليهم من كل جانب، وتم إنقاذ الموقف ونجونا من كارثة، هذه القصة هي مثال آخر على طبيعة حركة الحشود، والواقع أن عرض أو سعة الشارع يساهم بشكل غير مباشر في المشكلة ذلك أن تلك الحشود إذا وصلت في تدفقها إلى حد الكتلة الحرجة التي تشكل تلك العقدة الهيدروليكية فيجب أن نتوقع حدوث تدافع بين تلك الحشود، وعادة تحدث تلك العقدة في حال وجود نقطة مركزية تعيق الحركة و يتجه لها الجميع مثل الجمرة أو العربة التي ذكرت، وهذه ظاهرة يجب دراستها في جميع مسارات المناسك خصوصا ونحن نتوقع أن يصل عدد الحجاج في السنوات القادمة إلى 5 ملايين حاج مما يعني تحديا كبيرا لتفويج تلك الأعداد.
كيف يمكن الاستفادة من علم هندسة المرور في منع تدافع الحشود؟
كما ذكرت أعلاه إذا وصل عدد الحشود إلى ما يعرف بالكتلة الحرجة التي تسبب مثل تلك العقد الهيدروليكية فإن من المتوقع حدوث مشكلة بشكل أو بآخر، والاستفادة من علم هندسة المرور هي في دراسة المسارات وجميع الطرقات الرئيسية والفرعية والعرضية لتوزيع الحركة بحيث أن لا نصل إلى الكتلة الحرجة، مثال يشرح هذه القضية، استخدام بعض الحجاج لقطار المناسك وانتقالهم من مزدلفة إلى الجمرات مباشرة يخفض عدد الحشود الراجلة ومن ثم يتم الابتعاد على الكتلة الحرجة حتى لو جاء عدد إضافي محدود، ليس ضمن خطة التفويج؛ فيمكن استيعابه، وعلى ضوء ذلك يجب تقييم وتقويم أداء قطار المناسك لاستيعاب أعداد أكبر من الحجاج وبكفاءة أعلى مما هو عليه الآن.
كيف يمكن فهم ما حدث في حادثة التدافع بمنى على ضوء فهم العقدة الهيدروليكية لحركة الحشود وكيف يمكن الاستفادة من ذلك في تلافي حوادث الحشود مستقبلا؟
استمعت إلى شرح مفصل في الخبر الذي عرضته قناة الاخبارية السعودية للعقيد أحمد بن سعيد وكان حاضرا في غرفة العمليات وقت حدوث المشكلة، أوضح فيه تفاصيل حادثة التدافع التي وقعت في مشعر منى صباح الخميس، وذلك خلال الاجتماع الطارئ للقيادات الأمنية المشاركة في أعمال الحج برئاسة الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا بمقر وزارة الداخلية بمنى لبحث الحادث، قال فيه :» أن الوضع كان طبيعيا في جميع مشعر منى ما عدا في أحد الشوارع الفرعية حيث توحدت حركة الحجاج في هذا الشارع مع شارع عرضي آخر ثم اتجاه الحركة إلى الالتقاء مع زاوية الشارع المسمي الشارع الجديد رقم 202 أسهمت في تصادم بعض الحجاج وتساقطهم عند الزاوية، مشيراً إلى أن نتيجة تعارض الحركة بين الحجاج المتجهين على الشارع 204 عند تقاطعه مع الشارع 223 وارتفاع في الكثافة مما أدى إلى التدافع».
كان تلاقي حشود الحجاج القادمة من الشارع 204 وحشود الحجاج من الشارع 223 مع وجود مشكلة سقوط بعض الحجاج عند زاوية الشارع الجديد 202، كافيا لتكوين العقدة الهيدروليكية في شارع 204 عند التقائه مع الشارع 223، والجدير بالذكر أن تعارض الحركة يساهم في خلق المشكلة، ولكن السبب الرئيس يكمن في وصول كتلة الجموع إلى الكتلة الحرجة وهو ما يقصد بارتفاع (كثافة ) الحشود كما ذكر العقيد أحمد، وفهم دور كثافة الحشود وسرعة تلك الكثافة مهم في فهم كيف تتشكل العقدة الهيدروليكية ووضع الحل الهندسي الشامل لها لمعالجة ذلك مستقبلا.
الآن ما أهمية هذه القراءة الهندسية للكارثة ودراسة ما حدث في حادثة تدافع الحجاج في منى؟
يمكن عند طريق مسح جميع الطرقات الفرعية والعرضية في منى بالمحاكاة الافتراضية تحديد حد الكتلة الحرجة القصوى المتوقعة لتلك الطرقات، مع افتراض أنه لا يمكن السيطرة على خطة التفويج من قبل لجنة التفويج بسبب عدم التزام بعض الحملات بخطة رمي الجمرات أو التفويج وسلوك الحجاج شوارع وطرقات ليست في الحسبان، والاستفادة من محاكاة افتراضية لما حدث في شارع 204 واستخدام الكتلة الحرجة لحركة الحشود أن نعرف أي الشوارع والطرقات يمكن أن تشكل بؤرة مستقبلية لتكوين العقدة الهيدروليكية، في أسوأ الافتراضات؛ وعندها يمكن اعتبار تلك المنطقة من المناطق الحرجة ووضعها تحت المراقبة الخاصة في الخطة واستخدام علم هندسة المرور في فرض وتغيير مسار حركة الحجاج في الوقت المناسب حتى لا يكون هناك تصادم بين القادمين من الشوارع الفرعية وتلافي بؤرة العقدة الهيدروليكية.
أخيراً، يجب أن أقول إن ما نحن فيه من نعمة الأمن والأمان ومن نعمة خدمة حجاج بيت الله الحرام وما نملكه من خبرة وقدرة محلية وطنية هو فضل ومنة من الله عز وجل وحده لا شريك له، وأن نسأله سبحانه في كل موسم حج أن يمدنا بالعون والتوفيق لخدمه حجاج بيته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.