د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن كتبنا أن تحقيق الوفاق والمصالحة وتوطيد دعائم الأمن وتجذير الثقة في الدولة من أهم مقومات البقاء... والثقة هي الوقود المحرك في هذا كله... فالثقة بين الدولة والمجتمع والتي شهدت في العقود القليلة
الأخيرة انخفاضاً حاداً بكل المقاييس المتوافرة في العديد من الدول، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح سياسي من النجاح إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد بادرت إلى الاستقواء بمجتمعاتها كي تقاوم معه، وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل، وكي تثبت معه ركائز عقد جديد بين الدولة والمجتمع وتقوي تماسك اللحمة الحامية للدولة من مؤسسات بناء على قواعد جديدة عكس ما نراه في الكثير من الدول كليبيا وسوريا وغيرهما.. فتجذير بناء الثقة واحدة من القواعد التي تبنى عليها الأوطان السليمة، لأنّ غرس الشك المستمر في أذهان الناس وعوامهم يورث الريبة والسخط، ويخلق أمارات الفتور والتوتر، ويجعل الناس لا يصدقون ممثليهم، وتحصل في النفوس من التكاسل ما لا يمكن وصفه فيقصر الأمل؛ فبناء الثقة مبدأ سام في بناء الدولة والمؤسسات، فبدونه يمكنك أن تكبر أربعاً على وفاة الدولة؛ ولا يجب زرع بذور الشكوك عن المؤسسات والأفراد، فخصلتان ليس فوقهما شيء من الخير: حسن الظن بالله وحسن الظن بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: سوء الظن بالله وسوء الظن بعباد الله.
والنهج العقلاني يكون مبنياً على تلبية احتياجات الأجيال الجديدة. وكلها مبنية على العدل والتوافق والإيثار والمصلحة العليا؛ وهي القواعد الرشيدة للحكم، لأنه إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأس الحكام، وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة، وقد نهى عمر سعداً رضي الله عنه عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه، فانتزعه منه سعد وقال له: « هَلاَّ انْتَظَرتَ فِي اتِّبَاعِهِ إِذِني؟ « وَكَتَبَ إلى عُمَرَ يَسْتَأذِنُهُ فَكَتَبَ إِلَيهِ عُمَرُ: « تَعَمدُ إلى مِثلِ زُهرَةَ وقَد صَلِي بما صَلِيَ به، وبَقِيَ عَلَيكَ مَا بَقِيَ من حَرْبكَ وتَكْسِرُ فَوقَهُ وتُفسِدَ قَلبَهُ! وأمْضَى له عُمَرُ سَلَبَهُ. فالله سبحانه وتعالى ركب في طبائع البشر الخير والشر كما قال تعالى {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، وقال عزّ من قائل {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الاقتداء بالدين، وعلى ذلك الجم الغفير إلا من وفقه الله من أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه فقد امتدت يده إلى أخذه إلا أن يصده وازع، كما قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
ولقد نجحت الهند والعديد من المدن والجامعات الآسيوية في تطوير البحث العلمي والتكنولوجي، انطلاقاً من المنهج العقلاني الذي اتبعته السياسات العمومية لتلك الدول، مكنتها من تحقيق المستحيل وبموارد قليلة جداً مثل اليابان، اللهم ما تعلق بالموارد البشرية وهو ما نملكه نحن العرب أيضاً...
وكلما زرت مدينة تولوز الفرنسية (المدينة التي ناقشت فيها الدكتوراه وتابعت فيها جزءاً من دراساتي العليا في العلاقات الدولية والعلوم السياسية) أو أي مدينة أوروبية أحرى، إلا وزرت مكتبات المدينة وخزانة الجامعة. وكلما زرتها إلا وتزداد قناعتي بأنّ الغربيين كل يوم يكتبون، ودور النشر العالمية تصدر كتباً يومياً، وأن الإنسان الغربي بدءاً من المثقف وصولاً إلى الإنسان العادي يقرأ، وذلك ديدنه في بيته وفي وقت الاستراحة عندما يعمل، وفي وسائل النقل العمومية (وإذا سمعت ضجيجاً فغالباً ما إذا استرقت البصر ستجده صادراً من أناس ذوي أصول عربية) بل وحتى في الطريق والإنسان يمشي! هاته حقيقة ولا يمكن تجاهلها. ولهذا تمكن الغرب من تبطين العلم والثقافة والبحث العلمي المتطور في أعلى تجلياته في نفوس وأفئدة مواطنيه، واستطاع رغم أزمة القراءة العالمية من مأسسة لبنات المعرفة المتنوعة.
كنت مؤخراً في مكتبة (Ombres Blanches) (الظلال البيضاء) في تولوز، وبدأت أتصفح كتباً ما استجد في مجال العلاقات الدولية والعلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ والديانات، فإذا بسيدتين تقفان أمامي وبدأتا تتجولان في رواق الإسلام؛ وبحكم لون شعري الأسود وبنوعية بذلتي التي توحي بصفتي الجامعية، سألتاني عن كتاب أنصحهما به عن الإسلام ليكون مرجعاً لتلامذتهما الصغار في المدرسة الابتدائية، لأنه مفروض عليهما حسب ما أسرا إليّ تدريس كتاب عن الإسلام، وآخر عن اليهودية، وآخر عن النصرانية. بدأت أطرح على نفسي قبل أن يرتد إليّ طرفي مائة سؤال، أولاّ لأنّ المعنيين هن معلمات مربيات وهم أيضاً تلامذة، حيث كل ما سيسجلونه في هذا العمر سيبقى راسخاً في أذهانهم إلى يوم الدين، وثانياً فكل ما يُكتب من الغربيين عن الإسلام غالباً ما يكون فيه تحريف وتضليل، وثالثاً وهي الطامة الكبرى فقليلاً ما يكتب المسلمون ذوو القلم والعلم بلغة «موليير» أو «شكسبير» بالطريقة المثلى التي يجب كتابتها عن الإسلام، وإذا وجدوا فهم أقلة. والحمد لله وأنا واقف بالرواق وقع بصري على كتاب من كتب واحد من أعز الزملاء المغاربيين عندي، مصطفى الشريف، الفيلسوف والأكاديمي الجزائري الذي كتب كثيراً عن تحالف الحضارات والتنوع الثقافي وعن الإسلام باللغة الفرنسية، ثم كتيب آخر للمستشرق الفرنسي جاك بيرك كان قد سمّاه بـ (Relecture du Coran) (إعادة قراءة القرآن)، وإن كان الكتابان فيهما موضوعية وإيجابية وحمولة تطعيمية ونظرة متنورة خاصة في كتاب الأستاذ الشريف، فلا يمكنهما شفاء غليل لا الأستاذتين ولا التلامذة، لأنّ ما يمكن أن يحتاجهما التلامذة في هذا السن هو كتاب من طينة ما كتبه شاتوبريان Chateaubriand في القرن الثامن عشر عن (le génie du Christianisme) (عن نبوغ النصرانية) وهو مكتوب بأسلوب أدبي جذاب قلّ نظيره، لذا يوضع في خانة الكتب الأدبية المعتمدة التي تدرس، وفي خانة الكتب الدينية عن النصرانية، بل إذا تصفحت المعاجم الفرنسية، فإنه لما تشرح الكلمات الفرنسية فغالباً ما يتم اقتباس جمل بعينها من هذا الكتاب التي تطعم المعنى، ثم لا تنبهر إذا وجدت هذا الكتاب مازال يوجد ويباع بالآلاف ويقرأه الخاص والعام بدءاً من رئيس الدولة وصولاً إلى التلميذ في المدرسة. هذا الذي نحن في حاجة إليه إذا أردنا أن نعطي صورة صحيحة وبراقة عن الإسلام؛ كتاب بالفرنسية والإنجليزية يكتب عنلإسلام بهاته الحرفية وهذا الأسلوب وهاته المنهجية، يحكي الوقائع والتاريخ ويعطي الأمثلة، ويصف السماحة والوسطية، وبفكر يتماشى مع متطلبات «السوق الثقافية». فالذين يكتبون اليوم عن الإسلام في الغرب إما غربيون أو مسلمون يزاولون في المجتمعات الغربية ينسخون على منوال زملائهم، ويتحولون مع مرور الوقت إلى أناس يرفضون مجتمعاتهم الأصلية جملة وتفصيلاً، وهذا ما يمكن أن نسميه «بعقدة المثقف»، أو لنقل هي ازدواجية عند هؤلاء المثقفين ذوي المشاعر المضطربة مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، يتحولون إلى شخصيات غير متلائمة مع مجتمعات المنشأ المتخلفة، فيقعون في أزمة شخصية....
زرت صبيحة يوم السبت (حيث الباحثون والطلبة في هذا الوقت يكونون قلّة) خزانة الأرسونال التابعة لجامعة العلوم الإنسانية في تولوز، وجاءني طالبان من أصول إفريقية سيكملان الدكتوراه في الجامعة، وكنت قد درّستهما في جامعة فاس، تمثلا معي ما كنت أقول لهما ولكل طلبتي في بداية كل موسم جامعي: «كونوا جميعاً فئران الخزانات والمكتبات»، التغيير ممكن في وطننا العربي، والتأثير على العقول يأتي منا نحن المدرسين والجامعيين والآباء أي المجتمع.... وأتمنى للجميع دخولاً مدرسياً وجامعياً موفقاً.