د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
من أبرز جوانب النشاط اللغوي عند المحدثين ما كتبوه من مآخذ على النحو العربي، وما كان لتلك المآخذ من آثار تنظيرية وتطبيقية. وقد وفق منصور بن عبد العزيز الغفيلي إلى زوي جملة تلك المآخذ في كتابه (مآخذ المحدثين على النحو العربي وآثارها التنظيرية والتطبيقية)، والكتاب في أصله رسالة علمية نُوقشت في جامعة القصيم وتجد محتويات الكتاب تفصيلًا مباشرًا لهذا العنوان؛ إذ جعل الكتاب في بابين أولهما لرصد المآخذ وآخِرهما للآثار، وجعل الباب الأول في فصلين أولهما المآخذ على الاستشهاد بالمادة اللغوية وآخرهما المآخذ على المنهج، ولعل المآخذ على الاستشهاد، في نظري، داخلة في المنهج، وربما يختلف الأمر لو قيل المآخذ على موقف النحويين من الشواهد، ويُلاحظ ما في عنوان الفصل (المآخذ على المنهج) من غموض؛ فالباحث لا يوضح أي منهج بل يهجم، من غير تمهيد، على تفاصيل المفردات فيعقد مبحثًا لتحكيم النظر المنطقي والفكر الفلسفي ومبحثًا ثانيًا للتصنيف، وثالثًا للتقعيد، ورابعًا للمصطلح النحوي، وعليك لتفهم مراده من المنهج العودة إلى المقدمة التي يبيّن فيها أن المآخذ على المنهج هي “مآخذ على النحاة في تعاملهم مع المادة اللغوية بعد جمعها”.. وجعل الباب الآخِر (الآثار) في فصلين أولهما الآثار التنظيرية، وفيه ثلاثة اتجاهات تنظير من منطلقات تراثية، وتنظير من منطلقات غربية، وتنظير جمع بين التراثي والغربي.. وأما آخرهما (التطبيق) فجاء حسب الغرض منه فأحدهما تعليمي والآخَر بحثي.
إن أبرز ما يلفت انتباه القارئ في هذا الكتاب هو الجهود الاستقصائية التي أخذ الباحث نفسه بها فجمع بين المصادر التراثية والحديثة، وبين الكتب والرسائل والبحوث المتناثرة في المجلات والدوريات العلمية، ويحس القارئ دقة الباحث وعمق فهمه محتويات تلك الأعمال، ويظهر هذا في دقة استخلاص نصوص اقتباساته وعرضه لبعض الأعمال الطويلة المفصلة، فيحسن عرضه ويصدر عن فهم دقيق لها على الرغم ما تتصف به بعض الأعمال من غموض كبعض المحاولات المغربية.. واتصف الباحث بالحيدة، فترك الباحثين والمؤلفين يتحاورون وهو يرصد حوارهم بدقة ونزاهة ولم يستجب لإغراء مناقشة تلك الآراء واتخاذ مواقف واضحة منها إلا في حالات نادرة تجده مجبرًا على تقرير ما ينبغي أن يقرر، وحين سألته عن عزوفه عن مناقشة أقوال المحدثين تعذّر بطول العمل، وأنه لو فعل لتضاعف العمل وطال طولًا مفرطًا، وهو جواب يكفي ولكنه لا يشفي.
ختم الباحث عمله بخاتمة ضافية أجملت موقفه من عمل المحدثين، فجبر بذلك عزوفه عن المناقشة الجزئية في أثناء البحث، وجاء في هذه الخاتمة “أنّ النحو العربيّ القديم ينطلق من نظرية دقيقة في أصولها وعميقة في مفاهيمها، ومتماسكة في بنائها، وقابلة للتطبيق في دراسة التراكيب اللغوية، ومتسقة مع أهدافها”، وأن مراجعة التراث النحوي وتقويمه من أولويات الدرس النحوي ومطلب ثقافي حضاري يتطلب جهدًا وعملًا منهجيًّا منظمًّا لا يُغفل أيَّ منجَز، وأنّ نقد النظرية النحوية القديمة ضروري؛ لأنه مقدمة منهجية للسانيات العربية الحديثة، وأن كثيرًا من مآخذ المحدثين صدى لمراجعات قدماء كابن حزم وابن رشد وابن مضاء وابن خلدون، وأنّ تلك المآخذ كانت دافعًا قويًا للدراسات المعاصرة مستثمرة النظريات الغربية لإعادة وصف العربية وتفسير ظواهرها، و”أنّ دعاة المنهج الوصفي قاموا بأول دراسة للتفكير اللغوي العربي القديم تقوم على أصول نظرية وعلمية، وإن افتقدت في كثير منها الحديث عن الإطار النظري الذي تعتمده، كما أن بعضهم قدم مقترحات بديلة، غير أن كثيرًا من تحليلاتهم ظلت تدور في فلك النظرية النحوية القديمة”، وأنّ مراجعات الوصفيين اقتصرت على الملاحظة المجردة رافضة الجوانب التفسيرية التي قامت عليها النظرية النحوية القديمة التي هي في نظر الباحث أهم مرتكزات الفكر النحو العربي، وأن النظرية التوليدية التحويلية أسهمت في بلورة نظرة مغايرة للنحو العربي تنبّهت لجوهره الفكري، وظهرت موازنات بين تلك النظرية والنحو لما جزم به كثير من الباحثين من تماثل النموذجين مما جعلهم يتلمسون مظاهر التوليدية والتحويلية في النحو العربي، وأنّ الاتجاه الوظيفي تجاوز الصراع بين النحو واللسانيات؛ ولكن من الباحثين من رآه لا يضيف جديدًا، فلا يمكن أن يكون بديلًا للنظرية النحوية، وأن التخلص من وهم تعارض النحو واللسانيات يمكن أن يطور النحو بما لا يقوّض نظريته بل يكملها، وأنّ المعطيات بعد مرور نصف قرن كان يتوقع معها حدوث ازدهار في البحث اللساني؛ ولكن الواقع خالف ذلك؛ إذ ظلت اللسانيات تعاني من الإشكالات ما يقتضي التوقف والتأمل والمراجعة.
أرجع الباحث فشل محاولات التيسير أو تعديل النظرية النحوية ومعاناة اللسانيات العربية الحديثة وتجاهل نظرياتها إلى جملة أسباب منها: قوة النظرية النحوية القديمة ومنزلة النحو في الثقافة العربية، وأن منشأ اللسانيات الحديثة غربي يشي بأهداف تغريبية استعمارية تؤدي إلى رفضها خوفًا على العربية، وأنّ تعدد نماذج النظريات اللسانية وإسرافها في استعمال الرموز والمعادلات الرياضية يُشكك في جدواها، ولعلي أزيد على ما قاله الباحث أنّ للإلف قوة وسطوة تحول دون التغيير، وأن اللسانيات الحديثة لم تفلح بتقديم بديل تعليمي يثبت نجاعته، وظلت جمهرة الجهود في إطار البحوث النظرية التي لم تسلم من الغموض والتعقيد.
وأحسب هذا الكتاب أجمع عمل أطاف بجملة ما وجّه للنحو العربي من مآخذ وهو يبرز مرحلة مهمة من مراحل الثقافة اللغوية العربية، وهو من أهم ما يوصى بقراءته طلاب العربية.