د.عبد الرحمن الحبيب
في بداية حياتي العملية دفعني الخوف أو الوهم لأن أدَّعي أني من الهند، رغم فخري بكوني أمريكياً باكستانياً. فكونك هندياً أو صينياً أو يابانياً قد لا يغدو محبباً لكنه أخف من كونك باكستانياً أو أفغانياً أو عربياً أو تركياً أو إيرانياً.
هذا ما ذكره رجل الأعمال الأمريكي فهد خان، رئيس لشركات أمريكية. لماذا الآسيوي أخف حساسية بالنسبة للغربي من الشرق أوسطي المسلم؟ إنه الخيال الذهني المستند على حمولة تاريخية مفرطة الحساسية بين الحضارة الإسلامية والغربية، رغم أن حاضرنا لا صلة له بكثير منها..
تخيل لو أن الحضارة العالمية الحديثة متأسسة على الثقافة اليابانية وليس الغربية، ماذا سيكون موقفنا منها، وموقف الصينيين؟ نحن سنكون أقل حساسية أو بلا حساسية، كما نفعل مع المنتجات الصينية واليابانية.. نحترم بلديهما بلا عقد، رغم أنهما أبعد عنَّا دينياً وثقافياً من الغربيين؛ لأننا بلا تماس تاريخي مع شرق آسيا، بينما الصينيون سيكون لهم حساسية مفرطة تجاهها بسبب ماضٍ متأزم مع اليابان الذي اعتدى عليهم مراراً..
بيننا والغرب حمولة تاريخية ثقيلة يصعب التحرر منها، تتراكم فيها حروب مؤلمة منذ بداية التاريخ المدون مروراً بالحروب الصليبية، ثم حروب الترك شرق ووسط أوروبا، وحروب الأندلس غربها.. ومهما ثبت تاريخياً أن أحد الطرفين أكثر وحشية من الآخر، فهو ماضٍ فات!
ارتهان للماضي الميت رغم الحاضر الحي المختلف تماماً.. حتى أن المراقب الخارجي يشك بأن الأموات يديرون حياتنا الراهنة وفقاً لظروف ماضيهم.. أو العكس كما قال ابن خلدون: «لا يعني أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات»؛ مثلما نقول: إن «التاريخ يعيد نفسه».. حقاً؟ كيف يعيد نفسه بكل اختلاف ظروفه؟ إنها أذهاننا التي ترى مياه النهر الجارية اليوم هي ذاتها بالأمس، رغم ملاحظة هيراقليطس قبل خمسة وعشرين قرناً: «لا نستطيع أن نستحم بالنهر مرتين، لأن كل شيء يتحول..».
إنما الأشد وطأة هو الماضي القريب.. يقول المؤرخ الفرنسي هنري لورانس بمقدمة كتاب عن حملة نابليون: إن مشروع نابليون لإنشاء إمبراطورية في «دار الإسلام» كان مقدمة الصدام الراهن بين الإسلام والغرب، وفيه وضع الغرب أسس قرنين من الاستعمار المادي بالطريقة البريطانية، وآخر فكري بالطريقة الفرنسية. الاستعمار ولَّى، لكنه ترك حاضراً يمثل ذروة تأزمنا مع الغرب، باختراع الكيان الإسرائيلي في منطقتنا..
لذا يمكن أن نفهم تخوف أو أوهام رجل الأعمال فهد خان.. فحِدَّة التأزم الغربي مع مهاجري الشرق الأوسط المسلمين لا نجده مع المهاجرين اليابانيين أو الصينيين، وحتى أيضاً لا نجده مع الإندونيسيين ولا الماليزيين رغم أنهم من المسلمين، ولا مع مسلمي الهند مقارنة مع مسلمي باكستان كما أشار خان الذي لا يبدو أنه كان متوهماً، بل كان متأزماً..
بالتأكيد ثمة مسؤولية تاريخية نلقيها على الغرب، لكن ما جدوى إلقاء المسؤولية على أحد الأطراف، والتوجه لصراع مبني على الماضي.. طرف لا يرى في الغرب الحالي إلا المستعمر المتربص، رغم التغيرات المعاصرة.. وطرف لا يرى في مسلمي الشرق الأوسط إلا الهمجي المتخلف، رغم سماحة الإسلام.. طرف يصر على نظرية المؤامرة التي يحيكها الغرب ضدنا، وطرف يصر على أن كل عمل إرهابي «إسلامي» يمثل المسلمين..
يمكن لكل طرف الانتقاء من الماضي ما يؤكد وجهة نظره.. هذا في فن الدراما الأدبية يعتبر جمالية تراثية؛ أما في فن السياسة فهو خطاب احتقان ضار بالطرفين. الأجدى سياسياً هو الحوار مثلما بادرت له السعودية في مركز الملك عبد الله لحوار الحضارات.. ومثلما يفعل العقلاء من الطرفين، لكن أصواتهم خجولة أو مترددة.. فهنا من يخشى الاتهام بالعمالة أو جلد الذات وهناك من يخشى نفس الاتهام.. فالعِلَّة واحدة: «متلازمة» الماضي!
في الحوار ليس مطلوباً إقناع الأطراف بأفكار بعضهم البعض، بل معرفة مسوغاتها، ثم استيعاب مواقفها، لإزالة الأوهام وتحسين مواقف الطرفين لما يخدم مصلحتهما وفقاً للحاضر وليس للماضي.. خذ مثلاً، اصطناع دولة إسرائيل، فمن ناقشتهم على مدى سنين من الأوروبيين حول هذا الموضوع يرون الصراع العربي الإسرائيلي استمراراً لصراع منذ ألفي سنة بين فئات دينية حول الأراضي المقدسة بفلسطين. لقد نسي الجيل الحالي من الغربيين أن الأزمة مختلقة استعمارياً منذ عهد قريب.. ويكاد الحوار لتحميل الغرب المسؤولية بلا جدوى.. الأجدى هو النقاش حول العدوان الإسرائيلي الحاضر وليس الأوروبي الماضي..
قال لي شاب يساري يوناني: أرجوك اسمعني بلا انفعال، أنا مع القضية الفلسطينية وضد العدوان الصهيوني، لكن بصراحة أنتم العرب تعاندون، أنظر للخريطة لديكم مساحة شاسعة من الخليج للمحيط وترفضون قيام دويلة صغيرة ليهودكم! هو من جيل يعتبر أولئك اليهود أبناء المنطقة، ولا يعرف أن غالبيتهم جاءوا من أوروبا كوطن بديل منحه الغرب الاستعماري..
لاحظ المفارقة التي ينتجها سوء الفهم.. كثير من الغربيين يلقون مسؤولية الجهاديين الأوروبيين الذين ينضمون لداعش على البلدان المسلمة الشرق أوسطية، ونسوا أنهم مواطنون غربيون بدولهم، وتلك مسؤوليتهم بالمقام الأول، وليس السعودية أو مصر أو المغرب.. قلت هذا لصديق صحفي بريطاني، فقال بكل أريحية الإنجليز: أتصدق، لم أفكر بهذه الطريقة!
وفي نفس الوقت نحن لا نذخر أية حادثة للمواطنين المسلمين بالغرب، إلا ونفهمها كمؤامرة مقصودة ضدنا.. أشهر مثال منع الحجاب بالمدارس الفرنسية؛ لا نطرحه مع منع ارتداء الصليب المسيحي ولا القلنسوة اليهودية.. فالعلمانية المتشددة في فرنسا تمنع كافة المظاهر الدينية بمدارسها، ومن يتعرض فليعترض على الموقف المتطرف ضد المظاهر الدينية وليس فقط ضد الإسلام..
وفي هذه الأيام، نتهم الأوروبيين بلا إنسانيتهم في استقبال المهاجرين العرب، وننسى أن أغلب الدول الأوربية تعاني من ركود اقتصادي حاد، وأن موجات المهاجرين ضخمة.. وبالمقابل يتهم الغربيون دول الخليج العربي بعدم استقبال السوريين ويتناسون أنهم بالملايين يعشون فيها بكل احترام!
إنها حمولة تاريخية ثقيلة.. العولمة تخففها مستندة على المصالح المشتركة الراهنة، والإيديولوجيون يؤججونها مستندين على التاريخ.. والارتهان للماضي يعني تبني أزماته.. بينما أزمات الحاضر لديها ما يكفي.. الحوار الهادئ المنفصل عن تداعيات الماضي الجانبية هو أفضل وسيلة لإيضاح قضايا الحاضر الأساسية.. فنحن أبناء اليوم الحي وليس الماضي الميت..