عبدالعزيز السماري
توجت أربع منظمات تونسية، وهي «الاتحاد العام التونسي للشغل» و»الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية» و»الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين» و»الرابطة التونسية لحقوق الإنسان» يوم الجمعة الأخير، بجائزة نوبل للسلام، تقديرًا للدور الذي لعبته في إنجاح الحوار الوطني التونسي، ووضع تونس على طريق الديمقراطية..
كان إنجازهم التاريخي علامة فارقة في التاريخ السياسي العربي، بعد أن بذلوا الجهد للتوصل إلى حالة الوفاق السياسي السلمي في البلاد، وهي بلا جدال كلمة السر الغائبة عن الواقع العربي، الذي كان ومازال في أغلب فصوله يؤمن بالحل العنيف لفرض الرأي الواحد والحكم المنفرد، ثم دخول البلاد إلى دوامة العنف والمذابح إلى أن يستتب الحكم إلى جهة عن أخرى.
كانت الدولة في التاريخ بشكل عام تقوم على أكوام جماجم رموز الدولة السابقين، لكن التطور الحديث في نشوء الدول أدي إلى غياب تلك الحقبة، وإلى ظهور حالة الرئيس السابق حيًا يمارس حياته الشخصية من دون أن يكون تحت الإقامة الجبرية أو في السجن مدى الحياة، وذلك بعد اللجوء إلى حالة الوفاق السياسي والسلم الاجتماعي والديموقراطية والدستور، وكانت النتيجة دخول العالم الغربي إلى مرحلة الرخاء المستديم، بينما مازالت ظاهرة رفع الجماجم ثقافة عربية سياسية من أجل قيام الدول.
رفع العباسيون جماجم أبناء عمومتهم الأمويين، ونبشوا قبورهم من أجل قيام دولتهم، وكان مصيرهم في نهاية الأمر التدمير والذبح على أيدي التتار الغزاة على طريقة كما تدين تدان، وشاهدنا في القرن الواحد والعشرين وفي أوج تطور الأنظمة السياسية في العالم مشاهد مروعة من رفع الجماجم في بعض صور الذبح التي تقدمها لنا دولة داعش بصفة دورية من أجل قيام دولتهم، ومرت على أبصارنا مرحلة رفع المشانق في عصر القومية العربية للخونة أو السابقين في الحكم.
أصبح مصطلح الجماجم شائعًا في الإرث العربي، فكان له فصل مثير في الشعر العربي، وكان بمنزلة الرمز في أنثروبولوجيا الأماكن، فقيل قرية ودير الجماجم وأم الجماجم، وبعد ظهور عمليات التنقيب للآثار في العصر الحديث، كشفت لنا الحفريات المزيد من الجماجم المدفونة في باطن الأرض العربية، وتبدو أراضي الشام والعراق وليبيا مرشحة للوصول لزيادة أعداد جماجم شعوبها في باطن الأرض إلى أرقام قياسية.
لأسباب غير مفهومة ما زال العربي يؤمن أن الحاكم من يستبد، ومازال حكم الفرد المطلق الذي يقوم على أشلاء أجساد الأبرياء ثقافة عربية بامتياز، ولذلك قد تكون التكلفة باهظة لإخراج مثل هذا الفكر من العقل العربي، والعلة في ذلك أن بعض الفرق الإسلامية المتطرفة لا تزال تبشر أنه الحكم السياسي في الإسلام يقوم على الذبح، وأن ثقافة الديموقراطية والوفاق السياسي كفر مبين.
لهذا السبب على وجه التحديد كان المشهد التونسي مخالفًا للإرث العربي القديم، لذلك يستحق التقدير، فقد أخرج البلاد من التدمير والتمزيق، وقاد مرحلة الصراع على طاولات الحوار بدلاً من الاقتتال في الميادين، فكان نصيب تونس الخروج من دوامة العنف، وربما يؤثر هذا التقدير على الوضع في ليبيا، ويخرج المجتمع العربي الليبي من التمزق إلى الوحدة على مبدأ الوفاق السياسي.
كانت ثورة الملالي في إيران ضربة قاسمة للعمل السياسي المدني العربي، فقد أذكت التفكير الطائفي في العقل العربي، فتشوهت عمليات التحديث السياسي في المشرق العربي، وفتحت الباب لخروج الجماعات التكفيرية في المجتمعات العربية، وكان الثمن باهظًا في الميادين عندما أعادت ثقافة الانتقام من ماضي الجماجم في التاريخ الإسلامي، فكان المشهد كما ترون صراعًا دمويًا بين داعش وجحش.
هل الإسلام دين أم دولة؟ سؤال يستحق من الإنسان العربي أن يرفعه كثيرًا، وأن يفكر فيه بصوت عالٍ، فقد أدمت الأوضاع العربية مقولة إن الإسلام دولة تقوم على الذبح، وأن دولتي داعش وإيران فيهما تطبيق للسياسة الشرعية سواء عند السنة أو الشيعة، بينما يدرك الحكماء أنهما قامتا على رفع الجماجم وتعليق الجثث في الشوارع من أجل فرض الحكم المطلق لهم، باسم الله عز وجل، والله بريء مما يفعلون.
حالة الوفاق السياسي في تونس نموذج يستحق الإشادة والاقتداء به في الدول التي تئن تحت ظروف الصراع السياسي العنيف، وذلك من أجل إنقاذ أمة من خطر التمزق والتشرد بسبب تلك الرغبة البدائية في التحكم المطلق بحياة ومصير وعقول الآخرين.