د.خالد بن صالح المنيف
في زمن مضى وعلى ذلك الملعب الترابي الذي كان يضاهي عندنا ملعب ريال مدريد (سانتياغو بر نابيو) كنا على موعد في ذلك اليوم لملاقاة فريق الحارة المنافسة، وهي كانت مباراة تمثل لنا الكثير حينها, وبينما كنا نجري عمليات الإحماء، فاجأنا أحد أبناء الحي برغبته في اللعب معنا! وراعينا مشاعره وتفهمنا رغبته ووعدناه بإمكانية إشراكه في الشوط الثاني كحارس مرمى وهي الخانة المناسبة له والخانة الغير مرغوب فيها ! فامتعض وأزبد وأرعد وقال بكل صراحة: إنه يرغب في أن يكون مهاجما ومن البداية ! وكانت الاستجابة لهذا الطلب مستحيلة فالخانة يشغلها لاعب جيد, والأمر الثاني أن صاحبنا كان بدينا جدا, وبالكاد يتحرك وتلك الخانة تحتاج للاعب خفيف الحركة !رفضنا طلبه تماما وتراجعنا كذلك عن وعدنا له باللعب كحارس مرمى وقلنا له: لعله يكون في المباريات القادمة!
وبهدوء غادر المكان وظننا أن الأمر انتهى والموقف سُيطر عليه، وأن صاحبنا قد آب إلى عقله وثاب إلى رشده وانتهى من غيه واستوعب فداحة مطلبه واستحالة مقصده!
بدأت المباراة وفجأة حدث ما لم يجر في خاطر ولم يطر في بال!! أقبلت سيارة (وانيت) بسرعة عالية متجهة لوسط الملعب ! فمن ياترى هذا الذي اقتحم ملعبنا ونوى الشر بنا ! إنه المهاجم الكبير، صاحبنا الذي رفضنا طلبه ! أخذته أنفة وعزة نفس ولسان حاله :لست ممن يسام الذل، ويرضى بالخسف!
وأحسبه كان يردد بيت المتنبي:
مَنْ يَهُـنْ يَسْهُلِ الهَـوَانُ عَلَيهِ
مَا لِجُـرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلامُ!
طاردنا فردا فردا بالسيارة ! وتخيلوا منظرنا ونحن (نتراكض) كالأرانب لننجو بأنفسنا ! وأما الملعب فاصبح أخاديد وحفر مما ناله!
وأمام تلك الحالة المخيفة والوضعية المفزعة! ناداه أكبرنا سنا وطلب منه التوقف لكي يتم التفاهم معه حفاظا على الأرواح والممتلكات! وفوضنا الرجل بأن يفعل أي شيء لكي ننجو! وفعلا ذهب للتفاوض معه واتفق معه على أن يلعب رأس حربة وأن يتقلد إشارة الكابتنية أيضا!
واستراتيجية (ألعب وإلا أخرب) استراتيجية يلجأ إليه بعض ضعفاء الشخصية بسطاء التفكير قصار النظر، فالبعض لازال يعيش بعقلية (أنا) ومن بعدي الطوفان, مصالحي مقدمة ومحبوباتي مكرمة, ورغباتي محققة وإلا سترون مني ما لا يسر خاطركم ولا يبهج روحكم!
فتلك زوجة في سفر طلبت من زوجها الذهاب لمكان ما فرفض الزوج لاعتبارات معينة؛ فضاقت نفسها واحمر أنفها وساء كلامها وبدأت تمارس على الزوج وعلى الأسرة ألوانا من التنكيد والإزعاج!
وذاك الموظف الذي لم يتم اختياره لدورة تدريبية؛ فجن جنونه وخرج عن طوره فبدأ يبث السموم وينقل الإشاعات وينال من المدير ويشيع قالة السوء داخل المنشأة!
توعر في الأخلاق، وجفاء وغلظة في الطبع!
ومثل هذا الموقف يتكرر كثيرا باختلاف الشخوص والمواقف, والعاقل لا يتعامل بتلك النظرة الضيقة ولا يتصرف (بمراهقة) فكرية بل تجده يتلقى الأمر الذي لابد منه بصدر رحب، وجنان ثابت وبال واسع؛ فمن المخجل أن تجد أحدهم يتعامل معه من حوله كطفل فتجدهم يراعونه أشد المراعاة ويحققون رغباته!
فمن تمام العقل ونضج التفكير أن نتعامل بعقل راق وفكر ناضج نعبر عن مشاعرنا ونبدي رغباتنا ونرفع طلباتنا ونصرح بآرائنا فإن وجدت قبولا فحيهلا.... وإن لم تجد قبولا فالأمر بالسعة!
يعرف د مصطفى فهمي علم الصحة النفسية بأنه: علم التكيف أو التوافق النفسي الذي يهدف إلى تماسك الشخصية وتقبل الفرد لذاته وتقبل الآخرين له وهو ما يترتب عليه شعور بالسعادة!
والصحة النفسية على هذا مرتبطة على نحو كبير بالسلامة من عقلية (ألعب أو أخرب) وقدرة على الفرد على التكيف مع غيره وتقبل الأحوال التي لابد منها أو التي يرغب فيها الجميع, وتلك الشخصية قدرتها على الإقناع جدا ضعيفة وكفاءتها في التأثير متدنية !
وتلك مهارة تبدأ من العيش (بسلام) مع النفس وخلوها من الصراعات أو الجروح النفسية القديمة!
يقول معاوية رضي الله عنه وهو من عقلاء ودهاة العرب: عجبت لمن يطلب أمرا بالغلبة وهو يقدر عليه بالحجة! فالحبيب اللهم صل وسلم عليه استجاب لرغبة بعض الصحابة في تغيير تكتيك معركة (أحد) والتي تبين عدم جدواها ! بمرونة وعدم لوم بعد النتائج الغير متوقعة!
وينصحنا عبد الوهاب مطاوع بقوله: علينا دائما أن نتقبل ما تأتي إلينا به المقادير وأن نتجاوز السؤال (لماذا) إلى السؤال ماذا نستطيع أن نفعل لكي نتغلب على آلامنا ومشاكلنا!
إن العناد وركوب الرأس أمر يستطيعه عامة الناس, وهو أمر يتفشى في المجتمعات (المتخلفة)!
فأنت ترى أحيانا محاولات البعض إسقاط حاكم أو رئيس أو مدير لكونه ليس مرشحهم أو مخالف لتوجههم الفكري أو لكونهم لا يستلطفونه! وهذا سخف وبساطة وصغر عقل !
فالتعايش مع الواقع ومع ما لا أمل في تغييره, والتوافق والمداراة والتكيف مع الأمور, وإن خالف المزاج بضاعة الكبار أصحاب العقول الكبيرة!
يقول جمال جمال الدين: الإنسان المتحضر يستمع إلى الآخر ويقبل بوجوده والمتخلف يضيق بالرأي ولا يسمح بظهوره بل يسعى لكبته وسحقه!
بل إن من العقل والدهاء الاجتماعي أن يغلب الإنسان نفسه في بعض المواقف أمام أطفاله أو زوجته أو زملائه أو رؤسائه أو مرؤوسيه طمعا في مصلحة أكبر ورغبة في جائزة أثمن ! وتلك علامة جلية لقوة الشخصية وجمال الروح!
لا تستجلب الألم ولا تتعجل الحروب ولا تكن سباقا نحو المشكلات، انسجم وتناغم مع الآخرين ومع الظروف ومع المتغيرات ومع الحياة عموما، تقبل الهزيمة كما تتقبل النصر ولو فعلته لجعلت ما تظنه هزيمة نصرا! واعلم أن مشاكل الكبار لا تحل بأساليب الصغار وأن النجاح الجميل يكون بلا معارك دامية وبلا خسائر فادحة!
ومضة قلم
لا يوجد شخص فاشل ولكن يوجد شخص بدأ من القاع وبقى فيه.