لبنى الخميس
قبل أسابيع قليلة دخلت الخامسة والعشرين من عمري.. ما دفع اختي الصغيرة لتسألني بوجه تعتريه علامات الفضول.. هل أصبتِ بالحزن وأنت تطفئين شموع عام جديد وتمضين في الآخر؟ أجبتها بالنفي.. وسرحت بفكري محاولة معرفة سر سؤالها.. فأدركت سريعاً أنها تحيا وسط مجتمع يؤمن بأن الإنسان كلما تقدم بالعمر قلت فرص سعادته.. وتقلصت قيمة الحياة ومتعها بنظره.. وابتعد عاماً من الشباب ليقترب من آخر نحو الكهولة والعجز.. في حالة تجسد نظرية «الجزء الفارغ» من الكأس. ما دفعني لأن أشارككم وجهة نظري حول هذا الموضوع.
بطبيعة الحال، الإنسان لا يتعلق بالرقم كقيمة جامدة ومجردة.. بل بالفكرة والقيمة خلف الرقم.. حيث لُقّن لفترة طويلة بأن الحياة تكون في أوجّها وقت الشباب.. وبُرمج بأنه كلما تقدم بنا العمر تلاشت لذة التجارب والمغامرات.. لكثرة المسؤوليات وتراكم المهام العائلية أو الوظيفية.. التي تمتص بحضورها عفوية الحياة وإقبالنا عليها.
لكن الواقع يقول العكس.. الإنسان الراضي عن حياته وعما قدم وجمع في سنوات عمره من إنجازات عظيمة، وذكريات جميلة ومؤثرة.. لا يمكن إلا أن يشعر بالامتنان والرضا عن عمره.. لأن هذا العمر هو تراكم جميل لذكريات وخبرات قادتك لتكون بنسختك الحالية.. وهو من مضيت معه بتجارب.. واستقيت من أيامه العبر والدروس التي جعلتك أنضج وأكثر قوة وحكمة لمواجهة التحديات والعقبات. ذلك العام الذي تخرجت فيه من الجامعة.. وتلك السنة التي أنجبت بها طفلك الأول.. أو داومت في وظيفتك الأولى.. أو ارتبطت بها بزوجك وسندك بالحياة.. أو سافرت بها لمدينة أصبحت لاحقاً مدينتك المفضلة.. أو تحديت بها ذاتك ونجحت رغم إصرار الجميع بأن لن تنجح! كل تلك الذكريات التي مضت بنا عبر السنين هي نحن.. باقة متجددة من المعارف والخبرات والقناعات.
شخصياً.. لا أملك إلا أن أشعر بالامتنان لكل السنوات التي مضيت بها بحلوها ومرها.. خريفها وربيعها.. بتجارب النجاح ودروس الفشل.. بذكريات الأمس وأحلام المستقبل.. لأنها عرفتني على نفسي وقربتني من «لبنى» التي أطمح أن أصل إليها يوماً.
تقول مدربة تطوير الذات الإماراتية هــالة كاظم.. بأن كل عقد نمر به يختلف تماماً عن غيره.. ويتمتع بخصائص إيجابية وأخرى سلبية.. واصفة «العشرينات» بأنها أصعب عقد قد يمر به الإنسان، حيث يعاني من التخبط وضبابية الرؤية تجاه المستقبل.. بالإضافة إلى اعتقاده بأنه بات على قدر عال من المعرفة، ومستوى رفيع من الخبرة والإدراك لخفايا الأمور.. كونه تخرج حديثاً من الجامعة وبات يشعر بأنه قادر على حل معظم مشكلات العالم التي عجز عن حلها من يكبرونه عمراً ويسبقونه خبرة.. بينما تبدأ الأمور بالتجلي والوضوح في العقد الثالث، إذ يقل الاندفاع وتنخفض معدلات الحماسة غير المنضبطة، وتستقر اضطرابات الهرومانات الناتجة عن عدم الارتباط الزوجي.. لتصبح المرأة أكثر جمالاً ووعياً.. ويصبح الرجل أكثر قوة وكفاءة لاتخاذ القرارات وخوض التحديات.
أما الأربعينات فهو العقد الأجمل برأيها، حيث يتمتع الأربعيني بحكمة لم يعهدها في حياته، وتوازناً روحياً وسلاماً ذاتياً منعشاً نتج عن تراكم الخبرات، ودراسة الخيارات بهدوء وروية، ولعل نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين وهو يتأمل نواميس الكون من حوله في غار حراء أكبر دليل على أن الأربعيني يتمتع بوقـار وحكـمة وتوازن يؤهله لحمل أعظم رسائل الكون وتحقيق أسمى أهدافه. فلكل عقد نكهته اللذيذة.. وقصته المذهلة.. كل ما علينا أن نمتطي سنينه ونستمتع برحلة متفردة لا تشبه غيرها.
أخيراً.. العمر ساحة عامرة من التجارب.. ورحلة مدهشة من التغيرات والدروس التي لو لم نستمتع بها تقريباً.. نحن حقاً لم نعش.. استمتعوا بصفحات دفتر عمركم واملؤوها بالجمال والحب والعطاء والإنجاز.. ولا تضيعوا منه صفحة في ندب سنين أدبرت.. وأحلام مضت.. مواقف ولّت.. ولا تسمحوا للأفكار النمطية أن تبرمجكم وتقنعكم أن الأرقام هي من تصنعنا.. بل نحن من يصنعها ويبث في عروقها الحياة.. بالروح التواقة في أعماقنا.. والشعلة المضيئة في داخلنا.. فالإقبال على الحياة يطيل العمر وينعش الروح ويثري دفتر العمر.. والإدبار عنها.. مضيعة للعمر.. ومفسدة للفرح.