إبراهيم عبدالله العمار
من أشهر المؤرِّخين اليوم الأمريكيان ويل دورانت وزوجته أريل، لهما الكثير من الكتب، أشهرها موسوعة «قصة الحضارة» وهو كتاب هائل كتباه على مدى 40 عاماً يحوي 4 ملايين كلمة موزعة على 11 مجلداً و10 آلاف صفحة، هدفا منه إلى كتابة تاريخ البشرية كاملاً، ولخّصا الموسوعة في كتيِّب أسمياه «دروس من التاريخ» ، وضعوه موزعاً على عدة فصول أو «دروس».
جذبني هذا الكتاب، ومما شد انتباهي فيه الدرس الثاني عشر الذي يتكلم عن الحضارات، وعنوانه «النمو والتفكك». يقول مؤسِّس الاشتراكية الفرنسية كلود هنري دي روفروي، إنّ التاريخ ينقسم لقسمين: فترات حيوية وهي الفترة التي يشترك فيها الناس في الأفكار والأنشطة الاجتماعية، والتي تليها هي فترة الفوضى وهي التي يتخالف فيها الناس وتتشتت روابطهم ويصير المجتمع مجرّد وعاء يحوي أناساً متفرقين. التاريخ يُظهر صحة هذا التقسيم، ومثال ذلك عندما ظهرت الكنيسة وانتشرت أفكارها ووحّدت الكثير من الناس، حتى أتى عصر الفوضى في القرن الخامس عشر عندما ظهر المصلحون وبدأ الافتراق والتشتت. في العصور الحيوية الناس يبنون، وفي الفوضوية يهدمون.
هذه قصة الحضارات دائماً: تظهر ثم تزدهر ثم تتردّى ثم تزول (أو أن تبقى كأحواض راكدة آسنة لا يُرى إلا آثار مجدها السابق). غير أنّ التحديات الكبرى تصقل الشعوب وتزيد قدرتها على التعامل مع التحديات المستقبلية مثل أمريكا في 1933م (الكساد الكبير) و1941م (دخول الحرب العالمية الثانية)، إلا إذا كان التحدي قد استهلك قوة وطاقة الدولة، كما بريطانيا في 1945م والتي انتهت من الحرب العالمية الثانية التي أضرّتها بشدة.
هنا يَبرُز سؤال: ما الذي ينهض بالأمم؟ يقول المؤرِّخان: وجود روح المبادرة.. وكذلك وجود أفراد مبدعين لديهم من الإبداع والإرادة ما يمكِّنهم الإتيان بحلول فعّالة للمشاكل الجديدة (الإبداع يأتي من الوراثة ومن تأثير البيئة). ولهذا السؤال نظير: هذه أسباب النهضة.. فما أسباب السقوط؟ من دراسة المؤرِّخين لكل أمم البشر التي نهضت ثم سقطت، هناك عدة أسباب قد لا تخطر على البال، منها الجفاف، حيث تقحل الأرض وتَعقَم. الزراعة السيئة والمتهورة تفسد الأراضي الصالحة والخصبة فتجوع الأمم. التغيير في آلات وطرق التجارة يترك المدن مهملة ومهترئة كما حصل في مدينة البندقية بعد عام 1492م. زيادة الضرائب بشكل فاحش يمكن أن يعطل الاستثمارات ورؤوس المال والرغبة في الإنتاج. الطبقية الشديدة تفرّق المجتمع على أساسٍ طبقي أو عرقي. الفقر وزيادة السكان يخيّر الحكومة بين ترقيع المشكلة باستنزاف الاقتصاد وإنهاكه، أو بين الثورة والمظاهرات والشغب. أحياناً تجتمع هذه العوامل لتقضي على أُمّة.
للدين أهمية ضخمة في حفظ المجتمعات. فلاسفة اليونان دمروا الدين القديم وأحلوا محله العقلانية. عندما تأتي التشكيكات في الدين فإنها تضعفه، وبما أنّ الدين هو الذي يدعم الأخلاق في المجتمع، فإنه لا يُضعف الفكر والعقيدة فحسب بل حتى الأخلاق، وتنشأ أجيال جديدة متحررة من الأخلاق، تنشأ على الترف والفساد وانحلال الأسرة والمجتمع وتفرقهم ويصير همّ الناس أنفسهم فقط. ضعف القيادات يتيح للمشاكل الداخلية أن تنمو، ومن ثم تأتي الضربة القاضية على هيئة غزو خارجي وتنتهي الحضارة.
الموت حتمي، ليس للبشر فقط، بل حتى للحضارات.