إبراهيم عبدالله العمار
ما مدى خبرتك في المفاوضات والأمور المالية؟ أظنها عادية مثل غالبية الناس، لكن إذا كنتَ من المحترفين فحتى أنت يمكن أن تقع ضحية لتحيز التثبيت!
تحيّز التثبيت أو الارتساء anchoring من الظواهر التي تخدع العقل، تُسمى «تحيزًا» لأن العقل ينحاز لشيء ما سواء عرف أم لم يعرف.
هذا التحيز العقلي يحصل كثيرًا لنا، فما هو؟ إنه يقوم شخص بتثبيت رقم في عقلك بمجرد أن ينطق به، فيجعلك تقدر رقمًا لشيء مجهول الرقم أو الكمية (عدد، نسبة، الخ) قبل أن تدرسه بشكل كافٍ.
خذ هذا المثال: لو أنني أريتك سلعة لم ترها من قبل، ثم طلبت أن تقدر سعرها، وقلت لك: هل تظن السعر قريبًا من 70 ريالا؟ فهذا يكفي لتشغيل تحيّز التثبيت.
لقد قمتُ بتثبيت الرقم في عقلك، وهذا يكفي لأن تتعلق بهذا الرقم وتعتقد أن السعر يحوم حوله، فربما تقول «لا، بل أظنها أقرب لمبلغ 40 ريالا» أو «90 ريالا».
إن التجارب التي أجريت على أناس عشوائيين أظهرت مدى انتشار وقوة هذا التحيز الذي لا ينتبه له الناس.
صنع أحد العلماء تجربة على بعض المشاركين فكان يدير عجلة عليها أرقام وإذا توقفت يسألهم عن الرقم الذي توقف عليه المؤشر ويسجلونه، إلا أن المؤلف غيّر آلية العجلة بحيث لا تقف إلا على رقمين: 10 و65.
بعد ذلك سألوا المشاركين: ما توقعك لنسبة الدول الإفريقية بالنسبة لمجموع الدول كلها في الأمم المتحدة؟ لا علاقة للعجلة بهذا أو بأي شيء.
والمفروض أن المشاركين تجاهلوها، لكن لم يتجاهلوها، بل الذين حصلوا على الرقم 10 كان تقديرهم 25 في المائة، والذين حصلوا على الرقم 65 قالوا 45 في المائة! لقد قام هذا التحيز بتثبيت تلك الأرقام لا شعوريًا وصاروا يُقدّرون بناء على رقم عشوائي.
في كل التجارب تظهر نفس النتيجة: الناس يتأثرون بالرقم المبدئي الذي فكروا فيه. إذا سُئلت إذا ما كان غاندي أكبر من 114 سنة عندما توفي فسيكون تقديرك أكبر بكثير مما لو كان الرقم المقترَح 30. لو أردت شراء بيت فسيبدو البيت أعلى قيمة لو كان السعر المطلوب عاليًا ولو حاولت مقاومة تأثير هذا الرقم.
حتى خبراء العقار كانوا ضحية لهذا.
عالم نفسي سأل مجموعة من الحريصين على البيئة عن مدى رغبتهم في التبرع بمبلغ من المال لإنقاذ طيور البحر من تسربات ناقلات النفط.
لما كان السؤال عامًا كان المعدل: أنا مستعد أن أتبرع سنويًا بمبلغ 64 دولارا لهذه القضية.
بعدها سُئل بعضهم سؤالاً تثبيتيًا مثل: «هل يمكن أن تتبرع بمبلغ 5 دولارات لإنقاذ طيور البحر؟» فنزل معدل التبرعات المدفوعة إلى 50 دولاراً للشخص.
أما الذين سئلوا: «هل يمكن أن تتبرع بمبلغ 400 دولار...» فارتفع معدلهم إلى 143 دولاراً للشخص! كل هذا بلا شعور، فأنت تظن أنك تفكر عقلانيًا لكن مخك ينخدع بأشياء لم تدركها.
البائعون يفعلون نفس الشيء إذا بادروا بنطق سعر السلعة، فيصبح في موقف قوة، وتصير أنت حبيسًا للرقم الذي ألقاه البائع، ويستطيع أن يتلفظ بأرقام مبالغ فيها، وقد تستنكرها لكن تقديرك للسعر سيتأثر بالرقم.
من المهم الانتباه لهذه الأمور. كلما عرفتَ طريقة عمل عقلك عرفت كيف توجهه بعيدًا عن التحيزات والمخادعات.