تركي بن إبراهيم الماضي
تروي العرب المثل الشهير (رُبَّ عجلة تهبُ رَيْثاً) وهو يضرب للرجل يشتدُّ حرصه على حاجة ويخرق فيها حتى تذهب كلها. وأول من قال ذلك مالكُ بن عوف بن أبي عمرو بن عوف بن مُحَلِّم الشَّيْباني، وكان سنان بن مالك بن أبي عمرو ابن عوف بن ملحم شَامَ غَيْماً،
فأراد أن يرحل بامرأته خماعة بنت عوف بن أبي عمرو، فقال له مالك: أين تظعن يا أخي؟ قال: أطلب موقع هذه السحابة، قال: لا تفعل فإنه ربما خَيَّلَتْ وليس فيها قَطْر، وأنا أخاف عليك بعضَ مقانب العرب، قال: لكني لست أخاف ذلك، فمضى، وَعَرَضَ له مروان القرظ بن زِنْبَاع بن حُذَيفة العَبْسي فأعجله عنها وانطلق بها وجعلها بين بناته وأخواته ولم يكشف لها سِتْراً، فقال مالك ابن عوف لسنان: ما فعلَتْ أختي؟ قال: نفتني عنها الرماح، فقال مالك: رُبَّ عجلة تهبُ رَيْثاً، ورب فَرُوقَة يُدْعَى لَيْثاً، ورب غَيْثٍ لم يكن غَيْثاً، فأرسلها مثلا.
ما مناسبة القصة هنا؟
يظن بعضنا أن حرصه الشديد يثمر شيئاً وهو ظن غير صحيح. لأنه يفترض أن أداءه المتقن لعمله سيضمن له النجاح، ويغفل عن أنه لا ضمانات للنجاح في أي عمل. كما أن طلب الكمال في كل عمل يُؤدى هو إرهاق واستنزاف للموارد وللقدرات البشرية.
أتذكر هنا قصة أخرى قد تقرّب المعنى أكثر. كان لي صاحب يريد أن يشتري منزلاً. مضت الأيام والشهور وهو يبحث. لم تكن مشكلته المال، بل في قناعته بأنه لا بد أن يجد المنزل الملائم له، دون أي عيب. التقاه رجل عركته الحياة، وكان ذا تجربة وخبرة في بناء المنازل. قال له: لا تتعب نفسك أكثر. لن تجد ما تريده. تحتاج أن تكون مرناً قليلاً، وستجد مئات الخيارات. تفتقت ذهن صاحبي على فكرة أخرى. سيبني منزلاً، وسيباشر الأمر بنفسه. أعاد له الرجل الخبير الرأي مرة أخرى: لن يتحقق ما أردت.. وحتى لو حرصت وسهرت بنفسك على البناء.. ستجد بعد انتهاء البناء أن هناك نواقص غفلت عنها.
كان عنيداً أمام رأيه، حتى والرجل الخبير في مهنته، يحلف له بالله أن منزله الذي باشره بنفسه، قد وجد به نواقص بعد أن سكنه.
مضت الأيام، وصاحبي يجهد نفسه في المتابعة والإشراف على بناء منزله. كان حرصه الشديد على أدق التفاصيل مرهقاً على نفسه وعلى العمّال.
انتهى أخيراً من البناء. كان يظن أنه اقترب من الكمال. نام ليلته الأولى في منزله الجديد مطمئناً. واثقاً أن حرصه أتى بنتيجة.
بعد أسبوع واحد فقط، تساقطت المياه من سقف الغرفة السفلى. تتبع مصدر التهريب، فوجدها في الحمام العلوي. أحضر سباكاً. اضطر إلى تكسير الأرضية، ثم كانت المفاجأة. قطعة صغيرة جداً تسببت في كل هذا الدمار الذي حدث.
ليست هذه القصة عن شخص بعينه، ولكنها عن معنى الحرص الذي يرهق صاحبه والآخرين. الإتقان في أداء العمل، ليس هو نفسه البحث عن الكمال. كلاهما يبحث عن النجاح، لكن الفرق يكمن في التفاصيل الصغيرة.