أ. د.عثمان بن صالح العامر
طبيـعـة الحياة وسنة الله في الكون وسيرة بني البشر على هذه الأرض جعلت من المجزوم به أن لكل منا مساحة من الغيب المجهول الذي لا يعرفه أحد إلا زوجته وأخص خواصه، وربما لا يعلم عنه أحد ألبتة، تختلف هذه المساحة اتساعاً وضيقا حسب طبيعة هذا الإنسان والظروف التي تمر به، وقدرته على تحمل سر نفسه وعدم إفشائه.
اليوم اتسع عالم الشهادة في حياة إنسان العصر، حتى صار يفتقد الخصوصية الشخصية، ولا يملك القدرة على السرية مجاراة ومحاكاة للآخرين ربما، وقد يكون سبب ذلك بحثاً منه عن الشهرة وتسويق الذات، فهو يغرد وينشر بالصوت والصورة كل حركاته وسكناته، أدق تفاصيل حياته، وربما جاوز فيما يفضيه عن نفسه إلى ما لا يليق أن يعرف عنه، باسم الحرية تارة والشفافية والثقة بالنفس والرغبة في الجماهيرية ولفت الانتباه و... تارات، وقد يعزز هذا السلوك ملاحقة المشاهير، ممثلين وفنانين بل حتى دعاة ومشائخ ومثقفين، ملاحقتهم من قبل الإعلاميين المهووسين بالسؤال عم?ا هو داخل الصندوق الأسود، أو المتابعين المجانين الباحثين في المسكوت عنه، الحريصين على تتبع الغرائب والخوض فيما هو أساساً من الخصوصيات التي لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، وعلى شاكلتهم وفي دائرة المحاكاة والتقليد ينسج ويغزل غيرهم، حتى صار كل شيء مكشوفًا في عالمنا الافتراضي المفتوح.. الملابس.. الأكل.. الأولاد.. المنزل.. السيارة.. الزوج وربما الزوجة.. السفر.. الأصدقاء.. العمل.. الرياضة المنزلية.. المكياج الشخصي.. كل شيء وبالتفصيل اللحظي الذي يرصد أدق التفاصيل.
لا أدري ماذا بقي محفوظاً في الصندوق الأسود مخفياً بين الحنايا وسط الضلوع عند هؤلاء العاشقين لكشف المخفي وهتك المستور في حياتهم الخاصة وبين بعضهم البعض، ما العبارات التي ما زالوا يحتفظون بها كنزاً لهم يدخرونه ويحتفظون به لينفقوه في دوائرهم الخاصة بهم التي لا يعرف تفاصيلها غيرهم، إن بقي شيء من هذه الدوائر ما زال في أحد زوايا صندوقهم الأسود لم يفضح بعد؟!.
إن هتك المستور ينزع البركة، ويثير الحسد، ويُوغر الصدور، ويفسد النفوس، ويصيب صاحبه بالغرور والإعجاب بالنفس على لا شيء، ظناً منه أن كل ما قيل له من ثناء ومديح صحيح، وربما جنى على نفسه بنفسه وأوردها المهالك وهو لا يشعر.
لقد كانت دائرة الخفي في محيطنا الأسري واسعة وكبيرة، فالأبناء لا يعرفون شيئاً عن خصوصية والدهم، فضلاً عن والدتهم التي يتابعون اليوم حسابها في السناب أو الإنستغرام أو عبر تويتر والفيس بوك، فيعرفون ما كان قبل سنوات معدودة في دائرة المحرم المجهول، ونساء الحي لا يعرفن عن مشاكل جارتهن مع زوجها، ولا يعرف الصديق ماذا أكل البارحة صديقه، ولا الأم متى حملت بنتها، ولا القريبة أين يعمل زوج بنت العم، ولا...
إننا بحاجة إلى تذكر وصية يعقوب لأبنائه: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}، بحاجة إلى توسيع دائرة الخصوصية وإغلاق صناديقنا السوداء جيداً، والإمساك بالمفتاح حتى لا تكون نفوسنا وحياتنا سوقاً مشاعة للآخر أياً كان هذا الآخر.
قد يقول قائل: المقدر سيحدث، مستشهداً بقول الله عز وجل: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}، وأنا معه فيما قال، لكننا نحن مأمورون ديناً وعقلاً ببذل الأسباب والحرص على التوازن بين عالم الشهادة والغيب في حياتنا الخاصة، وهذا الحديث يأتي في هذا السياق وداخل هذا الإطار، حفظ الله الجميع، ورزقنا الستر في الدارين، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.