عمر إبراهيم الرشيد
لكل أمة هوية جامعة تشتمل على انتمائها الديني ورصيدها الفكري وثقافتها وعمرانها، والثقافة بدورها هي جميع العادات والتقاليد والفنون والعمارة، وكل ما يميز مجتمعاً أو أمة عن غيرها. ولعل من أكثر ما يبرز ثقافة مجتمع ما، هو فن العمارة أو الهوية العمرانية وطرق البناء وفنونه. ولقد كتب الكثير ونوقش كذلك على مختلف المنابر مسألة انعدام الهوية العمرانية للمدن والبلدات في المملكة، وسبق أن تناولته
هنا مراراً. إنّ أول ما يبحث عنه الزائر أو السائح في أي بلد تحط فيه أقدامه بعد لقاء أحد من شعبه، هو أن يجول ببصره يمنة ويسرة في مبانيها وفنها المعماري ، بحثاً وتشوفاً لملامح تكشف ثقافة وأنماط تفكير هذا الشعب أو ذاك، وشيئاً من هويته المميزة.
والمعروف أنّ المملكة حين بدأت مرحلة البناء الحديث أوائل الستينات من القرن المنصرم، قد استخدمت الأنماط المعمارية السائدة في كبرى العواصم العربية آنذاك، في القاهرة وبيروت ودمشق وغيرها باعتبار الخبرات العربية التي استعانت بها المملكة حينذاك، وكانت أنماطاً عمرانية جميلة مايزال بعضها باقياً حتى اليوم مثل بعض الوزارات في العاصمة وغيرها من المباني التجارية والخاصة العريقة. على أنّ معظم المباني في مختلف مدن المملكة في تلك الفترة كانت ما تزال طينية ، بهويتها العمرانية والتي بنيت بحسٍّ بيئي واجتماعي عالٍ حقيقة، حسب الإمكانيات التي توفرت للأجداد على مر الأجيال. ثم إنه كانت هناك مئات بل آلاف المباني والمساجد الأثرية العريقة التي يعود تاريخ إنشاء بعضها إلى مئات السنين، حدث أنه إما بسبب الإهمال الذي تراكم عليها مع مرور الزمن، أو مع بدء هدير حفارات وآليات الهدم قصد البناء والتعمير، منذ بدء ضخ النفط على أرض المملكة مروراً بالطفرة الأولى (بدأت عام 1975) وحتى الثانية التي مانزال نعايشها، أقول في غمار هذه الورشة التنموية العملاقة حدث وإن طال ذلك الهدم معالم أثرية ورموزاً معمارية تراثية، أو كما قلت تراكم عليها الإهمال حتى تداعت، مثل بيت الشاعر الأعشى في منفوحة كمثال لا حصراً، والذي يعود بناؤه إلى العصر الجاهلي.
الهوية العمرانية العربية والإسلامية معروفة شخصيتها وطرقها في البناء، التي تراعي التكوين النفسي والاجتماعي للإنسان العربي، إضافة إلى البيئة والمناخ. انظر إلى طرق البناء في تونس والمغرب وروعة المواءمة النفسية والاجتماعية، وحتى اختيار ألوان الطلاء ومواد البناء وغيرها، مما يشكل هوية عمرانية تجعلك بنظرة خاطفة إلى بيت من بيوتها، تعرف أنه في أصيلة أو طنجة أو القيروان، وعلى ذلك يجري الأمر في كل المدن والبلدان.
حقيقة إنّ ما يتم عمله حالياً من قِبل هيئة السياحة والتراث الوطني، وبتعاون وجهود الأهالي كذلك من إحياء البلدات القديمة والأثرية، وكذلك المباني والمساجد التاريخية، إلى جانب إحياء المواقع العتيقة كذلك، كل ذلك يُعد استرجاعاً للهوية العمرانية التراثية وحفظاً للتاريخ وجزء أساس من الهوية الثقافية. وعسى أن يكون، وهذا هو المأمول والنتيجة الطبيعية، مقدمة لإعادة الروح إلى النمط العمراني (الرمادي) السائد لدينا، بمزج شيء من التراث والأصالة مع نمط البناء (الأخضر)، والذي يراعي البيئة والإنسان ويدعم الصحة النفسية والاجتماعية والحس والذّوق الجمالي، طابت أوقاتكم.