د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
استحضرت ذاكرتي صدر بيت للشاعر اليمني البردوني ليكون عنوانا للمقال؛ وعجزه «وهو ذاك الذي ينادي وهذا» من قصيدته التي مطلعها «كان يبكي وليس يدري لماذا؛ ويغني ولا يحس التذاذا»، استحضرت ذاكرتي البيت الشعري وأنا اطلع مثل غيري على «حكاية الفكر» التي تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي وبعض منابر الإعلام التي كان بطلها معالي وزير الإسكان حينما تحدث في اللقاء الشهري الثالث لمنتدى أسبار 2015 عن متاهة الإسكان ذات الضوء الخافت منذ الأزل، وما انفكت لواعجها تغشى الناس في المدن والحواضر، وما زالت تهتز وتصطفق عندما يُوكل الأمر لفارس جديد
يختاره ولي الأمر حفظه الله ليتقصّى الأمر، ويتمعن الواقع، ويسبر أغواره، وفي كل أحوال الوزارة فإن كل قادم يستمع لما يقال عن ثغرات الإنجاز السابقة، وهكذا دواليك فذاك يصغي لهذا كما يقول البردوني ؛ ويبقى المواطن يرقب بزوغ القمر، وحتما فذاك المواطن لا يحب الآفلين؛ وفي واقعنا السكاني مازال الكثيرون يكابدون حلمهم الأزلي، ليصلوا إلى لغة المباني التي يتباهى بها الناس، ولكنهم لم يستطيعوا إتقان تلك اللغة، فغابت أحاديث السكن والاستقرار فيه عندما فقدوا خارطة الأرض، ومازال موضوعهم بلا حراك ؛فلعل فكر معالي الوزير وليس فكر المواطن أن يعلّق الجرس، ومن داخل المجتمع ونبضه نرى كثيرا من أصحاب المساكن ممن هم خارج دوائر الحاجة يجعلون من أحاديثهم «دراما» صاخبة يرتاد مسرحها اللاهثون وراء «بيت العمر» أو وفق مصطلح العامة من الناس «قبر الدنيا» وعندما يسدل الستار في كل مرة دون زفاف البطل فإنهم يظلون مسكونين في ذلك الاغتراب خلف وزارة الإسكان أو وزارة الأماني كما يحلو لبعضهم أن يسميّها.
هذا هو واقع الإسكان والمواطنين ؛أما عن حديث معالي الوزير فهو بلا شك رغبة في رسم قاعدة الانطلاق الصحيحة التي تمكّن وزارته من القدرة على تمثيل احتياج الواقع السكاني، وقد بدأ بتوجيه الفكر المجتمعي، ولكن واقع المجتمع لا يختزن في ذاكرته سوى مسئولية الوزارة عن استقرار المواطن وتسخير الامكانات لامتلاك السكن المناسب ؛ و تحدث الوزير عن السكن بمصطلح الطفرة، ودعم روايته بما فعل أسلافه من زرع ثقافات طافحة في محيط الناس حول نمطية السكن، ومحدداته، ثم أنهم تلبّسوا تلك الثقافة، واستهموا عليها؛ وذاك ما استهلّ به الأبناء والأحفاد النظرة إلى فكر الإسكان الحالي؛ ثم إن معاليه التفت خلفه ليتحدث عن أخطاء التمدد العمراني في أطراف المدن، وقوانين البناء منذ ثلاثين عاما وما بها من ثغرات؛ ولو كانت صفوة الحديث عن إصلاح الواقع باستراتيجيات جديدة، وقرارات شجاعة لكان الطرح متجليا في زمانه ومكانه، وساق الوزير فكرة الادخار من أجل الفوز بمسكن؛ وكأني بمعاليه يشير إلى امتلاك سيارة أو خيمة في صحرائنا المشمسة، وربما نحسب نصيحة معاليه ثمينة قبل أن ينقلب التراب تبرا، وقبل أن تتبدل الحياة ويصبح لها أحوالها وقضاياها المعقدة، وندلف إلى حديث معالي الوزير عن المساحات الهائلة في المدن التي تجاوزها الإعمار وهي صالحة للتنمية والسكنى فهذه ما المتحدث عنها بأعلم من السامع؟!! ومما يمكن طرحه في الشأن ذاته أن هناك مساحات هائلة كانت مأهولة ولحقت بركب الهجرة؛ والسؤال لماذا نأى عنها قاطنوها؟ وماهي مقومات تلك المهاجر التي نزح لها السكان زمرا سواء داخل المنطقة أو المدينة الواحدة ؛ ذلك النزوح هو موضوع يجب على الوزارة مشكورة أن تبسطه على طاولة الحوار وأن يتصدر أولوياتها، وإلا أقفر من أهله ملحوبُ؛ ثم إن معالي الوزير عندما طرح فكرة البيت المرحلي؟!! فذاك سبق لم تأت به الأوائل؟!! وفي عقلي البسيط حفظت الفكرة مع المستحيلات الثلاث ؛الغول والعنقاء والخل ّ الوفي وجعلتُ البيوت المرحلية رابعة.
ويُحمد لمعالي الوزير مشاركة المواطنين همومهم، والظهور في صدارة الموقف، والحوار حوله، ومناشدتهم الرأي للتغلب على واقع الصعوبات التي تحيط بالموضوع لأن المجتمع لا يعرف إلا السائد الذي عادة ما يشكل قناعاته من خلاله على مر الزمن؛
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
والحياة بما أرادها اللطيف الخبير {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك 15) لاتستقيم للبشرية إلا بالفكر، ولا مشاحاة في تأثير الفكر في ثقافة المجتمع، ومن المسلّمات أيضا أن التصوّر الصحيح يلزمه فكر صحيح، وإلا فلا يمكن الظفر بالحلول المؤثرة.
وكل أمر يبرق في مجاله، ولكن لابدّ من المغامرة في ارتياد مساقط الغيث، ومن التأثير الاجتماعي نصنع القوانين، ونبني الاستراتيجيات، التي يسبقها تشخيص حقيقي لمكمن المشكلة ولا بدّ أن تُبنى تلك الاستراتيجيات على دراسات دقيقة تستمد من معطيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولا تحيط فقط بالحاجات الحاضرة بل لا بد من الوقوف بتمعن عند التحديات المستقبلية، وإذا ما كان الواقع الحالي يعتبر القطاع الخاص هو لبّ أزمة الإسكان ؛فإن الشراكة مع ذلك القطاع هي رأس استراتيجية الحل، ومشكلة الإسكان لابد من تجزئتها ليسهل حلها حيث أن كل مفصل تنظيمي يحتاج إلى رؤية مختلفة، وليت الوزارة الموقرة تستند إلى الخبرات الهندسية المحلية في بناء وتنفيذ الخطط والتشغيل، كما أرى أنه من المناسب جدا عقد ورش استطلاع في كل المناطق للاستماع إلى نبض المواطن ورؤيته حول فواصل الخطط والاستراتيجيات المزمع تنفيذها بإذن الله؛ ومثل تلك المشاغل الاستطلاعية تعقد مع مطوري العقار وأصحاب الأراضي وكذلك أبناء الوطن من المهندسين، وحتما حاجة المواطن للسكن ليست طارئة بل ملحّة ؛ ومن هنا نؤكد أن جهاز وزارة الإسكان والقائمين عليه هو ما يحتاج إلى فكر استباقي جديد وفريد وقرارات شجاعة وفاعلة، أما تغيير فكر المواطن الذي لم يشطح يوما عن حقه، فيبدو أن معالي وزير الإسكان رأى أهميته من نافذته التي تطل على تاريخ أزمة الإسكان التي تعبأت صناديقه من عرائض القوم ومحاضرهم دون مساس.