اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إنه لمن تعاسة العرب وسوء المنقلب أن تلتقي قوات الغزو الروسي مع قوات الغزو الفارسي على أرض الشام التي ورد ذكر فضائلها في الكثير من الأحاديث النبوية، وانفردت بنوع من الخصوصية والأفضلية على غيرها من البلدان، وطبقًا لما ورد في بعض الأحاديث أيضًا فإن هذه الخصوصية تنعكس على مَنْ يقطنها من الناس.
وانعكاس فضائل المكان على الإنسان يستدعي منه شكر النعمة وإعلاء كلمة المنعم، وإخلاص العبادة لوجهه سبحانه، وربط ذلك بالأسباب، وإلَّا حُرِمَ من فضل هذه المزايا المكانية وبركتها، وانطبق عليه قول الصحابي سلمان الفارسي مخاطبًا أحد الصحابة: إن الأرض المقدسة لا تُقدِّس أحدًا، وإنما يقدس الإنسان عمله، وهذا الغزو المزدوج ما كان له أن يكون لولا وجود النظام الفاسد الذي خان شعبه ووطنه وأمته، واستقوى بالأجنبي ضد شعبه، متخذًا من العمالة شعارًا ومن الطائفية دثارًا، والانتماء المذهبي النصيري والحزبي البعثي للنظام جعله يتأرجح بين الصفوية الفارسية والشيوعية الماركسية اللتين يجمع بينهما أوجه شَبَه فكرية مدعاة للاشمئزاز، وقواسم مشتركة غاية في النشاز، سواء على مستوى الشعارات أو الممارسات التي يمجها السمع وينفر منها الطبع، حتى أن نظام الحكم الذي يمارسه معممو الملالي يتفق في نصه وروحه مع نظام الحكم الشيوعي، فكلاهما وجهان لعملة واحدة من حيث الظلم والاستبداد، وارتداء الروس لرداء المسيحية، وتَغطِّي النظام الصفوي الفاشي بغطاء الإسلام، لا يغير ذلك شيئًا من المعادلة، واعتناق الفكر الجديد يعتبر تسويقًا للموروث القديم، وقد قال الشاعر:
مَنْ كان في حجر الأفاعي ناشئًا
غلبت عليه طبائع الثعبان
وقال آخر:
فلا تعذلينا، كلنا ابن لئيمة
وهل تعذب الأثمار إن لؤم الغرس
والتدخل الروسي بشقيه السياسي والعسكري في سوريا لم يكن جديدًا، ولكن الجديد هو انتقال هذا التدخل من طبيعته السياسية والعسكرية المحدودة إلى ما يشبه الاحتلال الفعلي للأرض السورية، بحيث وجدت روسيا في تحالفها مع النظام البعثي في هذا البلد مبررًا لتجعل منه محطة ثانية بعد أوكرانيا لتعود من خلالها إلى الواجهة، وتستعيد شيئًا من مجدها الذي ذهب مع ذهاب الاتحاد السوفيتي، مستفيدةً من علاقتها مع النظام والوضع القائم الذي أصبح فيه تنظيم الدولة الإرهابي ذريعة لتكالب الأعداء على الشعب السوري، ومستغلةً ضعف الإدارة الأمريكية وفشلها في مكافحة الإرهاب في العراق وسوريا وتردد هذه الإدارة وعجزها عن تبنِّي استراتيجية أَمنية وسياسية لحل قضايا المنطقة والتحكم في مجريات الأحداث فيها، وبالتحديد القضية السورية، حيث إنه منذ اندلاع الأزمة السورية وتصلب الموقف الروسي وتشدده لصالح النظام، يقابله تردد أمريكي وجعجعة أوروبية وتخاذل عربي، وبلغ التماهي مع الروس حدًّا أتاح لهم أخذ زمام المبادرة والحضور النشط في ميدان المنازلة، ومع مرور الأيام، وعندما رجحت كفة الميزان لصالح المعارضة؛ أثار ذلك حفيظة الدب الروسي، وتَوَّجَ تصلبه السياسي بتدخل عسكري. وعندئذ فشل الأمريكان فشلًا ذريعًا، وخطوط الرئيس الأمريكي الحمراء أصبحت خطوطًا خضراء، والإدارة الأمريكية وبَّخت نفسها بسبب أقوالها المجردة عن الأفعال وتراجعها عن قرارها بمهاجمة النظام بعد أن حشدت قواتها ضده في يوم من الأيام، ورغم ما حصل من حشد للقوة والتهديد والوعيد فإن القرار لم ينفذ والحشد سرعان ما تبدد، والتهديدات الخجولة التي أطلقتها لم يلتفت إليها أحد، والتخاذل والتسويف والمماطلة أفضت إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث إن التدخل العسكري الروسي وفَّر لروسيا ما يشبه السيطرة على الأجواء السورية، الأمر الذي فرض على الإدارة الأمريكية واقعًا اضطرها إلى أن تستجدي من الروس توفير ممرًا آمنًا لطيرانها وطيران التحالف الذي تقوده لمحاربة تنظيم الدولة، ومهما اعتبرت ذلك من قبل التنسيق فإنها وضعت نفسها في موقع المنسق الأضعف والتابع لا المتبوع.
والأهداف الروسية والمصالح الاستراتيجية التي تَعْتَبِرُ روسيا أن في بقاء النظام ضمانًا لبقائها، وجعلت منها مبررًا لتعنتها السياسي، وتدخلها العسكري، ودفعتها إلى الرمي بثقلها في الأزمة السورية، منها ما هو موجود على الأرض السورية، ومرتبط بسيادة سوريا وممارسات النظام الحاكم فيها، ومنها ما هو خارج الإطار السوري وله أبعاد سياسية على المستوى الإقليمي والدولي، والأزمة السورية تستغلها روسيا في سبيل تذليل المصاعب والمقايضة تارةً والمقاربة تارةً أخرى، للوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من الأهداف ذات الطابع الإقليمي والبعد الدولي، والموقف الروسي الداعم للنظام السوري والحريص على بقائه، ينطلق من منطلقات استراتيجية، تتجاوز الأزمة السورية إلى ما هو أبعد منها، كما ينبع من علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية تربط بين روسيا وسوريا منذ عقود زمنية طويلة، والمحافظة على النظام تعني المحافظة على العلاقات، ووسيلة من الوسائل الكفيلة باحتواء المنطلقات، بوصف هذا النظام الحليف الوحيد في المنطقة، وإذا ما خسرته روسيا خسرت بخسارته شرق البحر الأبيض المتوسط والمنطقة بأكملها، وتلاشى حضورها في المحيط الإقليمي الذي تحكمه عوامل جيوبوليتيكية ذات تأثير مباشر أو غير مباشر على مصالحها ودورها، ومن هذا المنطلق فإن إصرار القيادة الروسية على بقاء النظام وتدخلها من أجله أتى طبقًا لرؤيتها التي ترى أن هذا البقاء هو الضمانة لوجودها العسكري وكسر عزلتها، كما يتيح لها مجالًا لمقايضة أمريكا والغرب بشأن أوكرانيا، وتستطيع من خلاله استعادة ما يمكن استعادته من دورها المفقود كقوة عظمى، وقبل هذا وذاك يمكِّنها من ركوب موجة محاربة الإرهاب، واللعب على هذه الورقة وتغيير قواعد اللعبة لما يحفظ مصالحها ويخدم أهدافها.
وعلى هذا الأساس فإن أهمية سوريا بالنسبة لروسيا، والأدوار التي تستمدها من هذه الأهمية، وتستغل الأزمة للاستفادة منها والتحكم فيها، لا تقتصر على القاعدة البحرية في طرطوس ومبيعات الأسلحة والجوانب التجارية والاقتصادية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى بعض الحسابات والاعتبارات التي تعتبر سوريا رهينة لها، وليس لها دور على الأرض فيما يحصل على هامش الأزمة وبسببها من مساومات ومقايضات وتجاذبات واستقطابات، وعطفًا على هذه الممارسات فإن الاعتبارات والمصالح ذات البعد الإقليمي والدولي والحسابات الجيو- استراتيجية تعطي روسيا تبريرًا لتربط بين الأزمة وما تطمح إليه من دور يعيدها من جديد كقوة محسوبة في التوازنات الدولية، خاصةً في ظل تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، ونزعتها إلى إعادة تأكيد دورها كقوة عظمى ولاعب مؤثر في الساحة الإقليمية والعالمية، كما أنها ترى في تنحي رأس النظام السوري حسب رؤية الأطراف المضادة سابقة يمكن استغلالها ضد بعض دول الاتحاد السوفيتي السابق، أو داخل كيانات الاتحاد الروسي.
والقيادة الروسية لولا صلف السياسة وغرور القوة اللذان دفعا بها إلى التفكير باستخدام العضلات والبطش بدلًا من التعقل والاعتدال، كان بإمكانها الحصول على ضمانات تحفظ لها مصالحها في سوريا في ظل نظام بديل يتعهد لها باستمرار العلاقات معها، والارتهان لكل المعاهدات والاتفاقات المعقودة بين البلدين، نظرًا لما يربط الشعبين الروسي والسوري من علاقات وثيقة موغلة في القدم ليس من السهل التنكر لها أو تجاهلها، ولكن سياسة القوة التي أقدم عليها الروس واستحلوا بموجبها دم الشعب السوري، واستباحوا حماه، وولغوا فيما ولغ فيه النظام؛ عكست هذه السياسة الموازين وأفسدت موروث البلدين.
وقد استبق الروس حملتهم العسكرية في سوريا بتوسيع القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية في اللاذقية، وتجهيز القاعدتين لخدمة العمليات القتالية الوشيكة، كما واكب ذلك حشد عسكري وتحضيرات غير عادية، كدَّسوا بموجبها أسلحة متطورة من أحدث ما في الترسانة الروسية من الأسلحة الحديثة، وعَكَسَ التدخل العسكري مشاركة فعلية لمختلف صنوف القوات المسلحة بجميع عناصرها وأبعادها الجوية والبحرية والبرية والصاروخية والغواصات النووية والدفاع الجوي والاتصالات، وكل ما تحتاجه قوات التدخل من عربات مدرعة وآليات قتالية وأجهزة إلكترونية وتجهيزات لوجستية على نحو يضمن فاعلية هذا التدخل ونجاح مهمته.
وقد تم نشر عدد من طائرات سوخوي 30 متعددة المهام والأدوار والمخصصة في الأساس للدفاع الجوي، وسوخوي 24 وهي قاذفة طويلة المدى لها القدرة على القيام بهجمات خاطفة على سرعات عالية، أما المقاتلة الهجومية سوخوي 25 فقد صممت للدعم الجوي والتدخل المباشر في أرض المعركة، وهي الأكثر فاعلية والأفضل لإجراء عمليات جو - أرض، ولكون تنظيم الدولة لا يوجد لديه طائرات فإن نشر سوخوي 30 يهدف إلى مهام محتملة، منها على سبيل المثال إحباط محاولات التجسس ومنع الطائرات الأجنبية من الاقتراب أو الحصول على معلومات عن الأسلحة الروسية، كما جرى نشر عدد من الحوامات المخصصة للنقل والدعم الجوي وطائرات الاستطلاع، وبالإضافة إلى الأخصائيين في كل قاعدة؛ فهناك ما يزيد على كتيبة من جنود البحرية والقوات الخاصة، وهذه القوة مجهزة بدبابات وآليات مدرعة ومروحيات.
ومع انطلاق أول عملية جوية روسية دخل الصراع السوري في مرحلة جديدة ومنعطفٍ خطير، هذا الصراع الذي أُرِيدَ له أن يتحول من ثورة شعبية سلمية قام بها شعب مضطهد ضد نظام فاسد وحاكم مستبد إلى صراع مسلح متعدد الأطراف والأطياف، فهناك المقاوم والمعارض المعتدل، وثمة الإرهابي المصنوع، ويوجد من تُحركه محركات مذهبية وطائفية، وآخر له مصالح ومطامع إقليمية ودولية.
وترتيبًا على ذلك فإن ضعف الموقف العربي وسلبية الموقف الدولي، وخاصةً الأمريكي والأوروبي تجاه ما يحدث في سوريا والأحداث الجارية في المنطقة وتداعياتها الإقليمية والدولية، وتشابك خيوط اللعبة وكثرة اللاعبين، وتصادم مصالح هؤلاء اللاعبين، كل ذلك خلق بيئة مناسبة لروسيا وفسح المجال أمامها لتتسيَّد الموقف وتضيف إلى تدخلها السياسي المؤثر تدخلًا عسكريًّا فاعلًا، تتفق مبرراته مع مبررات النظام المتمثلة في إطلاق صفة الإرهاب على كل من يعارضه، ويقاتل ضده، وهذا التدخل زاد المشهد تعقيدًا، وحرف مؤشر البوصلة عن الاتجاه الصحيح بعيدًا، خاصةً وأنه أتى منقذًا للنظام وظهيرًا لتدخل الحليف الإيراني وتعزيزًا لدوره، وفي الوقت نفسه أوجد المبرر لإظهار بعض ما يحاك في السر إلى العلن، وما الحلف الجديد الذي يتألف من روسيا وإيران والنظام السوري والنظام العراقي إلا نتيجة لخطة مرسومة وتنسيق مسبق بين أطرافه، والتدخل العسكري الروسي وفَّر فرصة ملائمة لإعلان الحلف من جهة، والحلف بدوره رسم في الأفق علامة من علامات نجاح التدخل من جهة أخرى.
والواقع أن القيادة الروسية سيطر على تفكيرها سكر القوة، وعبث بها غرورها، فتراءت لها مصالحها من خلال حق القوة، وتجاهلت قوة الحق، وصح منها العزم على غزو سوريا بحجة محاربة الإرهاب والمحافظة على مصالحها الحيوية والاستراتيجية في هذا البلد، ونسيت هذه القيادة أو تناست أنها تدَّعي محاربة تنظيم الدولة الإرهابي، وهي تحارب ثورة الشعب السوري، كما أنها تريد محاربة صنيعة النظام، وهي تدعم النظام، كمن يعالج عرض المرض وهو المسبب لهذا العرض، وتنظر إلى حماية مصالحها على حساب إبادة الشعب السوري وتدمير مظاهر الحياة على الأرض السورية.
والدولة الروسية طالما هي نتاج موروثها الشيوعي، ورهينة تجاربها السابقة مع نفسها في أفغانستان والشيشان وبعض جمهوريات القوقاز ذات الأغلبية الإسلامية، وتغلب عليها هواجسها الخاطئة تجاه الإسلام السني؛ فإنه من العبث الاستنامة إليها أو توقع الخير منها، بل هي أس الشرور ومحور الويل والثبور، زد على ذلك أنه يربطها بإيران علاقات متينة وتعاون استراتيجي وثيق في المجالات الأمنية والعسكرية والطاقة النووية، وبينهما توافق واتفاق على محاربة الإسلام السني والتجني على المنتمين إليه، وتقاطع مصالحهما الجيوسياسية في المنطقة، يتعارض مع مصالح الشعوب العربية والإسلامية، وكل من هاتين الدولتين يدَّعي مناصرة الأقليات، وهما ألد أعدائها، وإنما يتخذ من هذا الادعاء جسرًا يتم العبور من خلاله نحو الإساءة إلى الأكثرية والأقلية في وقت واحد.
وإذا كان هذا الغزو جعل محور المقاومة، يحتل مكانًا يقاوم فيه نفسه تحت ظل التدخل الروسي الذي أوجد تحولًا وخلق موقفًا تحل فيه إسرائيل ضيفًا مرحبًا به في ضيافة هذا المحور الذي يدعي أنه تأسس لمقاومتها، ورفع شعارًا يتاجر فيه بهذا الادعاء ويزايد عليه، وهو الشعار الذي طالما خدع فيه الكثير من السُذَّج الذين لا يزال بعضهم سادرًا في سذاجته، حتى أنه صدَّق بأن تحرير القدس وفلسطين يكون على جثث السوريين وأنقاض منازلهم وأطلال المدن السورية، ويمر عبر الوطن السوري بعد تغيير ديموغرافية سكانه، وقتل وتهجير أهله، وتدمير حضارتهم والقضاء على مقومات حياتهم.
والآن وقد التقى محور المقاومة مع من يدعي مقاومته على الأرض السورية، وأحدهم عضو ظاهر في الحلف الروسي الجديد، والثاني عضو مستتر في هذا الحلف الذي تشكل في الظاهر لمحاربة تنظيم الدولة، وهو في الداخل يتعاون مع التنظيم ضد المعارضة السورية وجيش سوريا الحر، وصارت إيران ومحورها جنبًا إلى جنب مع إسرائيل تحت مظلة التدخل الروسي الذي أتى بموجب ضوء أخضر أمريكي، ونتيجة لموقف عربي هزيل لم يسبق له مثيل في التشرذم والتقزُّم، وكمحصلة لذلك فقد اكتمل عقد تكالب أعداء الإسلام مع تناوب خفافيش الظلام على المسرح السوري، وكشف الواقع حقيقة محور الممانعة لمن لم يكتشفها في السابق، كما تعرَّت مواقف أطراف التكالب والتناوب وافتضح المستور وظهرت الحقائق إلى النور، ورجع المتطبع إلى طبعه، ومن شواهد ذلك رد فعل بعض الدول العربية بعد التدخل الروسي وموقفهم في مؤتمر فيينا (2)، وقد قال ابن حزم: كل من غلبت عليه طبيعة ما، فإنه وإن بلغ الغاية من الحذر في إخفائها مصروع إذا كويد من قبلها، وقد قال الشاعر:
يا أيها المتحلي غير شيمته
ومن خلائقه الإقصار والملق
ارجع إلى خلقك المعروف وارض به
إن التخلق يأتي دونه الخُلُقُ