د. حمزة السالم
الفهم نابع من التصوُّر. وللدين تأثير قوي في تشكيل التصورات. فمتى كان التصور خاطئاً، جاء الفهم سقيماً. ولعل هذا يشرح تخلُّف تعاملات المجتمعات المتدينة. فالناس جميعاُ على شتى أديانهم، متفقون على أن أديانهم محرّفة. وأما المسلمون، فشبه اتفاق بينهم، على حدوث تحريف كثير في فروع فقه المعاملات. وسآتي بشاهدين على مقدمتي، وإن كانا شاهدين هامشيين في ظاهرهما، إلا أن الفطين يقرأ من خلالهما معاني شاملة عظيمة. أحد الشاهدين يضر باقتصاد الناس والثاني يضر بعقولهم.
- فمثلا مُتفقٌ بين المسلمين على حديث لا تبع ما ليس عندك وحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ وهو: بيع الدين بالدين. وهما حديثان متفق على صحتهما عند الناس، بينما أن أحدهما باطل سنداً، عند أهل الحديث، والآخر باطل متناً، عند الجهابذة من الأئمة الفقهاء.
وفوق ذلك، فإن أكثر الناس يردد الحديثين، في حال شبهته في الربا. وبعضهم يردده هكذا، عند ذكر أي معاملة مالية قيل له إنها محرّمة - كالمشتقات مثلاً - ويظن أن الحرمة فيها، كحرمة الربا. والصحيح أن أعظم ما يمكن أن يقال في حرمتها، أنها بيوع باطلة وليست بيوع ربوية. فهي إذاً محرّمة من باب تحريم الوسائل وما حُرم لأنه وسيلة تزول حرمته بزوال ذريعة تحريمه، كالمشتقات مثلاً. وهذا أصل عظيم في الشريعة وثابت عند أكثر الصحابة والأئمة العلماء، ويكفي منهج الفاروق عمر دليلاً عليه. وهو أصل معلوم عند الفقهاء، إلا أنه معمول بخلافه. وكشاهد يستأنس القراء به: ففي هذا قال الشيخ بن عثيمين رحمه الله في مثل هذه الأمور «أن نرده بالقاعدة المعروفة عند العلماء، وهي: (أن ما حرِّم تحريم الوسائل جاز للحاجة)؛ لأنّ المحرمات نوع ويضاف وعند لزوال ذريعته».
- فأما حديث لا تبع ما ليس عندك، فالسلم بيع ما ليس عند البائع، (وهو معكوس بيع الأجل أو التقسيط).. وفي هذا قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: «لا نسلم صحة هذه المقدمة (أي عدم جواز بيع المعدوم) فليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا لفظ عام، ولا معنى عام، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في المنع لا الوجود، ولا العدم بل الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا». انتهى كلامه. ففي مثل المشتقات، فإنّ كون السلعة في بيع السلم موصوفة وصفاً دقيقاً، فإنّ هذا الشرط أشد توفراً في بيوع المشتقات، مثلاً. فإذاً ليس هناك استدلال صحيح بهذا الحديث لتحريم المشتقات. فبقي علينا اعتراض عدم تسليم أحد العوضين عند العقد، لا الثمن ولا المُثمن. والحُجة الفقهية اليوم هي النهي عن بيع الدين بالدين.
- وحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ ضعّفه علماء الحديث ومن آخرهم المحدث الشيخ بن باز حيث قال، «والحديث في ذلك ضعيف، كما أوضح ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام، ولكن معناه صحيح، كما أوضح ذلك العلاّمة ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين)، وكما ذكر ذلك غيره من أهل العلم». انتهى كلامه. وقوله رحمه الله أنّ معناه صحيح فهذا بحسب أحوال المعاملات التي كانت تناقش آنذاك، فهو اجتهاد مرتبط بزمانه ويبقى الأصل الشرعي وهو الحل والجواز. فلا نحرّم إلاّ بنص شرعي. فهكذا ربّانا أهلونا على التسليم في الدين لا التأويل.
- وشاهد آخر، اشتهار الحكم بقتل الساحر. رغم أنه لم يثبت أي حديث في أمره عليه السلام بقتل الساحر. وأما حديث «حدّ الساحر ضربة بالسيف» فقد ضعّفه علماء الإسلام وآخرهم: الألباني والشيخ بن باز فقال عنه «ولكنه عند أهل العلم ضعيف الإسناد».
والعلماء اختلفوا في الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والسير فكيف بأحكام استحلال دم المسلم. والفقهاء غفر الله لنا ولهم يحبون استمرار ما ألفوا عليه أشياخهم، رغم أن ليس فقط الحديث ضعيف بل يوجد الشاهد بضده. وهو عدم قتل الرسول للبيد بن الأعصم وقد سحره.
- فلضعف النص الشرعي الوحيد في المسألة سنداً ومتناً، ومع عدم وجود أثر ثابت نقلاً عن الخلفاء الراشدين، ولو وُجد فليس بمُلزم، دأب الفقهاء في استشهادهم لقتل الساحر بأثر عن عمر وينسبونه لصحيح البخاري، وما هو في صحيح البخاري. (وهذه مصيبة النقل في الفقه).
ففي غالب الكتب والدراسات والأحكام والفتاوى، تجد نسبة الحديث للبخاري وما هو في البخاري. فمثلاً، في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في عدة مواضع تجد النسبة للبخاري بهذه العبارة «ولما ثبت في ، صحيح البخاري، عن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. فقتلنا ثلاثة سواحر» (والعجيب أن الهامش، يذكر المرجع لصحيح البخاري 64-4) ولو بحثت في الإنترنت، ستجد في المراجع نسبة حديث الساحر للبخاري ، ما عدا صحيح البخاري فلن تجده هناك. وهذا بالرغم من أن ابن حجر نبه على ذلك في شرحه لصحيح البخاري. حيث قال: «أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَصْلَ الْحَدِيثِ دُونَ قِصَّةِ قَتْلِ السَّوَاحِرِ» «وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ رَفَعَهُ قَالَ حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ فَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ» انتهى من ابن حجر.
وعوداً على مقدمتي، لأثبتها بعد أن أوردت شواهدي. فمثلاً المشتقات المالية، مثلها كمثل أي معاملة جديدة تأتي من الغرب، يُحرم جميعه ابتداء، ويُدبر له الأحاديث الموضوعة، بسكوت عن ضعف السند أو بتأويل يقلب المعنى. ثم يُعاد النظر فيه، ثم يقع الاختلاف. ومع مرور الزمن يفرض الجديد نفسه على المجتمع، وتزدهر صنعة الفقه، بعد أن تكون الأمة قد خسرت كثيراً علمياً وعملياً وثقافياً وفكرياً، فلا تسأل أمتي لم تأخرت عن الرّكب.
كما أن التوسع في موضوع السحر، بالإضافة إلى احتمالية الخطأ الكبير فيه، فإنه يدفع الثقافة للإيمان بالخرافة وما يتبعه من سطاحة الفكر، ونشر التهمة بين أفراد المجتمع فيفرّق لحمتهم ووحدتهم، ويضعف عقولهم، وقد يصل الأمر، إلى أنه قد يُحتج بها في الأحكام القضائية. كما تفعل بعض المجتمعات المسلمة برجم المرأة إذا حملت من غير زوج، وما على هذا دلّت سنّة نبينا عليه السلام، فما فهموا النص، فكيف وقد تجاوزوا في معاملات الناس من عدم الفهم إلى إخفاء الصحيح من النصوص وإظهار الموضوع منها.
ولهذا يصيب سحر وعين في بلادنا، ولم يصب بيل غيتس في بلاد الفرنجة، بشيء منهما. فلهذا تخلّف كاتبكم، الفقير إلى الله، فهو أسير المحبسين محبس الوساوس، ومحبس الحال التعيس. فلا عقل ولا مال، فأين المفر؟ أإلى الناس؟ فإلى سحر وعين. أم إلى العلم والمعاش؟ فإلى الحرام والإثم، فالله المستعان.