عبد الله باخشوين
.. قديماً.. كانت لدى كثير من العائلات العربية الميسورة الحال.. عادة.. تجعلهم يختارون لأولادهم وبناتهم المولودين حديثاً.. ((مرضعات)).. مختارات بمواصفات صحية وبدنية جيدة.. وسعيدة هي السيدة التي تلد متزامنة أو قريبة من ولادة تلك ((المرضعة)) ذات الصحة التي تجعل ((صدرها)) يدر ما يكفي لرضاع طفلين بأشباع يجعلهما في صحة جيدة.
وعند أصحاب الشأن غالباً ما كانت تلك المُرضعات ((خادمات)) أو حتى ((جواري)) في زمن الرق.. ليكون الرضيع قريباً من أمه الحقيقية التي لا يدر صدرها الكثير من ((الحليب)) الذي يقوته ويجعله قوياً.
طبعاً هذا أمر أدركه ((الخواجات)) قبلنا.. وأخذوا يطورون حليب ((الرضاع)).. إلى أن جعلوه بمواصفات حليب الأم.
وأذكر أن ابنى البكر تغذى على أنواع هذا الحليب.. لأن أمه بعد أن ولدته ((سباعي)) أي بعد حمل سبعة أشهر.. دخلت فيما يشبه الغيبوبة التي يسمونها ((حمى النفاس)) التي كثيراً ما تؤدي للوفاة.
جاء أبي وشاهده فيما يشبه ((الحاضنة)).. فقال لي بيقين :
- عشان ما يموت هذا الولد أعطيه لأمك..!!
وكانت أمي ((داية)) ومُرضعة وخبيرة في كل ما يتعلق بشؤون الأطفال.
قالت لي: ((لن آخذه لأنه لو مات عندي ستغضب وتقول (أمي هي السبب في موت ابني).. قلت بيقين: ((الأعمار بيد الله)).
قالت : ((لن آخذه.. لأننا سنتعلق به أنا واخوتك البنات وسوف تأخذونه وتكسروا قلوبنا)).
قلت: ((لن نأخذه.. هذا وعد))
وأخذته.
وتربى على الحليب ((الكيلكوز)) و((النستلة)).
وعندما برأت أمه من الحمى بعد نحو شهرين من الولادة.. أخذنا نذهب لزيارته مرة كل أسبوع.
كان عمره سنة ونصف عندما انضم إلينا بطلب من أمي التي قالت:
- ((سوف يكون فرحتكم وسلوتكم - ولا أريد أن أحرمكم من هذا الشعور)).
وطبعاً لم يكن لابني إخوة من الرضاع سوى تقنيات صناعة حليب الأطفال.
أما قديماً.. فكان الراضعون يجدون أن لديهم إخوة من الرضاع وهي حكاية قديمة بالنسبة لنا - تبدأ - من الشيماء أخت الرسول عليه الصلاة والسلام من الرضاع وكانت أخت صالحة.. لكن ليس هذا هو الحال دائماً.
فحين يكبر ((الرضيع)) لا بد - إن كان صاحب مقام رفيع - أن يضع مرضعته في مكان مميز ويغدق عليها من الخير الذي هو فيه كنوع من الشكر والتقدير.
أذكر أن عديلي ولد ابنه ((ماجد)) مع ولادة ابنتي فاطمة.. وكان سعيداً به ((كولد)).. غير أن أمه لم تتمكن من إرضاعه بدورها لمرضها.. فجاء يرجو زوجتي إرضاعه.. حتى لا يموت.. قالت:
((لا يمكنني إرضاعه إلا إذا وافق زوجي))
قلت: ((هي خالته وفي مقام أمه.. خليها ترضعه)).
كاد يقبل يدي.. لأن لديه عقدة.. ولد.. أو بنت فرضع ابنه مع ابنتي.. والحكاية في النهاية مجرد حليب بقيت ويمنح الحياة.
وأنا كثيراً ما أفكر في هذه الإشكالات التي حلتها تقنيات صناعة الحليب.
وأقول: رحم الله أمي التي كان لديها ((صدر)) أرضعت منه كل من هم في أعمار أولادها الستة، بعد أن ولدت أمهاتهم.. وكانت ترضعهم قبل أن يذوقوا طعم حليب أمهاتهم.
لأنني أعشق أبي وأركض خلفه لأ تعلق به في الأفراح والأحزان.. لم أدرك أنني ابن أمي، وأخذت منها تلك الصلابة التي لم تمنحها لأحد سواي من أبنائها.