تركي بن إبراهيم الماضي
لا تزال قضايا الفساد في مخيلة الرأي العام محصورة في مسائل: الرشوة، الاختلاس، والتزوير. في حين أن المتغيرات الاجتماعية في قضايا الفساد قد تبدلت كثيرا عما كانت عليه قبل ربع قرن من الزمان مثلا.
فلو أن مسئولا كرس جهوده في توظيف أفراد قبيلته أو جماعته أو «ربعه» في القطاع الذي يشرف عليه، فإنه سيصبح في نظر جماعته أو قبيلته رجلا صالحا.
أما إذا حدث العكس، وأدى الأمانة التي عليه، فإن القبيلة سوف تتبرأ منه، مثل ابن ضال! هذا المثال، وغيره كثير، يكشف حال التغير الكبير الذي حدث في المجتمع، بين ما كان مرفوضا وبين ما أصبح مقبولا، ثم أصبح واجبا العمل به.
التغير هنا هو في النظر إلى قيمة الأمانة وكيف تم تحييدها تماما لتصبح اسما قابلا للصرف الفوري أو بشيك مؤجل! وليس الحديث عن المال، بل العكس فإن المسئول الفاسد قد يبحث عن الوجاهة، وصدارة مجلس القبيلة، وهو ما لا يتحقق بالمال وحده! «القبيلة» التي ترى أنه «إذا لم تكن ذئبا، أكلتك الذئاب» هي التي تفسر هذه العبارة لتجعلها مقبولة في تجذيرها للفساد، لأن القوة هنا – التي يرمز لها بالذئب - تكون مقصورة لقبيلتك وأهلك وجماعتك دون سائر الناس، وهو ما يعني أن تتحول الوظيفة العامة إلى وظيفة تكسب، وجني منافع شخصية للفاسد ولجماعته! لذلك يسعى المسئول الأمين حتى لو كان صغيرا، لتبرئة ذمته بأن لا يحابي أحدا من معارفه، وقد يتشدد، فيتجاهل من له حق من أهله، حتى لا يفسر تدخله أو وساطته، بأنه إخلال بأمانته.
وبين هذين الفريقين، برز فريق ثالث لم يكن في المخيلة أبدا.
صديقي الذي ينتمي لهذا الفريق الجديد يعمل مسئولا في إدارة الموارد البشرية.
لديه من الحس والأمانة إلى درجة أنه يبحث في التفاصيل المحتملة لأي موقف أو مسألة تواجهه.
كان يبحث عن موظف كفؤ ليعاونه في عمله.
رشحت له من أعرف أمانته وقوته في العمل.
قابله، وكان معجبا به لدرجة أنه قال لي: « ليتك لم ترسله».
قلته له: «لم؟».
أجاب بتردد: «لن أستطيع أن أقبله» ثم أضاف: «الشاب كفؤ، ولبق، وشخصيته تعجبني جدا لكنني رفضته بسبب أنه ينتمي إلى قبيلة كبيرة».
سألته بتعجب: «وهل يضيره ذلك؟».
شرح لي أنه سيفتح على نفسه باب لن يقفل أبدا.
وأكد على «أن هذا الشاب سيكون نافذة توظيف لأفراد قبيلته».
قلت له: «أعرف أمانته، وأضمن لك ذلك».
أختتم محادثتنا بقوله: «لا أرضى عليه أن يكون تحت ضغط قبيلته، ولن أرضى أن أكون متشددا معه في كل معاملة توظيف يحملها إلي «! هذه قصة صغيرة قد تكشف حجم المشكلة التي تتطور بين من يحمي أمانته ومن يضعها بين أيدي معارفه.
وهي أيضا ترمي بلائحة التوظيف وحقوق الموظف في مهب الرياح، طالما أن هناك من لا يدقق في الأسماء!