فوزية الجار الله
(وماذا تفعل يا أبي؟
أعثر على الحصى الذي يشبه قلبي وأحوله بأصابعي الملتهبة إلى كلمات تجعلني في حوار مع البلد البعيد، تصير لغة قابلة للتجسيد..
ألا تقول كلاماً آخر؟
أقول لكنني لا أفهمه وتصير المرأة التي أخاطبها غربةً ثانية..)
ما ذكرته أعلاه هو بعض من ذلك الجمال الذي ورد في كتاب محمود درويش (يوميات الحزن العادي)..
حين نتأمل فتنة الكلمات في إطار الحديث عن اللغة ودلالتها ضمن تلك الأبجدية للحروف الثمانية والعشرين للغتنا العربية: حرقة الآه ودفء الميم وهدوء الباء وشراسة الشين لا بد أن يرد في ذهنك روعة إبداع محمود درويش الذي لا يكمن تميزه فقط في قدرته اللغوية ومهارته في تطويع الكلمات وصياغتها وحسب وإنما تكمن في ذلك الجمال المختبئ ما بين الحروف والكلمات..
كثيرون يقولون، يتحدثون، تمر بهم محطات عالية وهضاب أشبه بالمسطحات المهجورة وجبال مهترئة ثم يكتبون عبارة تتردد هنا وهناك (إنه المستحيل الذي يأتي ولا يأتي!)..
هم هكذا لكن محمود درويش ذلك العاشق لأرض بعيدة لا تغادر عينيه وقلبه يمتشق سيف عروبته، يقف على عتبة مضيئة لحلم قديم يتجدد ليصف ذلك المستحيل بكل حواسه، ملمسه، نكهته، ثقله، خفته، سقوطه، صوته، همساته.. فيتبدى ذلك المستحيل قاب قوسين أو أدنى من قلبك أنت..
بدا ذلك في كتبه وعناوينه، وهو لا يقل إبداعاً في نثره تماماً مثلما هو شعره:
يجعلك عاشقاً متأملاً للصباح حين تقرأ كلمات مثل تلك:
(القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني»
والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة في سلام مبتكر مع النفس والأشياء وتسكبه على مهل في إناء نحاسي صغير وداكن وسري اللمعان، أصفر مائل إلى البني ثم تضعه على نار خفيفة، آه لو كانت نار الحطب......)
وأيضاً تجده شامخاً رغم فداحة الحزن ولوعة الحنين وهو يرثي أعز أصدقائه غسان كنفاني الذي اغتالته رصاصة الغدر ثم ممدوح عدوان الذي ذهب إلى رحمة الله بعد صراع مع المرض..
حول رثاء غسان كنفاني أقتطف من مقالة له تحت عنوان: محاولة رثاء بركان:
(اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق. ولم يكتمل حضورنا نحن الأحياء - طبقاً لكل الوثائق. نحن الأحياء مجازاً، وأنت الميت - طبقاً لكل الوثائق، أنت الميت مجازاً..
أخيراً أتساءل: هل بعد تلك الكلمات كلمات؟!