د. جاسر الحربش
يقول جدعون ليفي، وهو إسرائيلي حقوقي مكروه في إسرائيل: بعد زيارتي مدينة جنين سألت وزير الدفاع إيهود باراك عما سوف يفعله لو كان فلسطينياًً فأعطاني الإجابة الوحيدة الصحيحة: أتحول فوراً إلى إرهابي.
إجابة إيهود باراك تختصر أسباب العنف والاختلاف على تعريف ما هو الإرهاب وما هي المقاومة، خصوصاًً عندما يسود التشتت والتقاتل بين فصائلها المختلفة. ما أريد قوله هنا لا يدور حول الأسباب الشخصية والشحن الوعظي والخلفية الأسرية والثقافية للإرهابي، فهذه أمور أشبعت بحوثاًً ودراسات واجتهادات فقهية وقانونية. لكن في إجابة إيهود باراك ما يفي بالغرض للقول إن السبب الأوضح والأكبر لظهور القاعدة وداعش في زمننا هذا هو اختلال الأوضاع السياسية والاجتماعية والحقوقية في المناطق التي أفرزت هذه الظواهر مثلما أفرزت مثيلاتها في فلسطين، ومن هنا أهمية البحث عن الدلالات على هذه الاختلالات.
لماذا العرب السنة تحديداًً أصبحوا في الإعلام العالمي هم المعنى الرديف للإرهاب الديني؟ الجواب بالمختصر المكثف موجود في إجابة اليهودي باراك بالإضافة إلى فوضى الفصائل المتسمية إجمالاً بحركات الجهاد الديني.
ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي والسياسي تحت راية الدين تتكرر منذ القدم في كل المجتمعات رغم اختلاف الديانات والعقائد. المعاني والدلالات وليس الأسباب، التي كشفها ظهور القاعدة وداعش تتلخص أولاًً في طريقة التعامل مع محاولات النقد والاحتجاجات السلمية بالكلمة والرأي واللجوء كبديل إلى القبضة الأمنية قبل وصول الأمور إلى ضرورة التدخل الأمني المشروع. الدلالة الثانية هي اختلال الأوضاع الاجتماعية والتنويرية والعدلية في المناطق التي أنتجت هذه الحركات العنيفة. الدلالة الثالثة هي الشعور المتواجد قبل وجود الظاهرة نفسها باهتزاز الاطمئنان إلى المستقبل الخاص والعام، وأشد أنواعه الخوف المستقبلي على النفس والعرض والولد والوطن. الدلالة الرابعة هي تآكل هيبة الدول المركزية (كأمثلة فقط العراق وسوريا وليبيا واليمن) بسبب الفساد المالي والإداري والانحياز الطبقي والفوارق المعيشية الأكبر من الاحتمال. الدلالة الأخيرة هي الشعور بالإحباط والهشاشة أمام التحديات القادمة من الخارج، وفقدان القدرة على مجابهة العلم بالعلم والقوة بالقوة المكافئة.
من المعتاد في الحركات الاحتجاجية العنفية السكوت عن المطلب الأصلي الذي هو مطلب دنيوي، لكون الربط بهذا المطلب فقط لا يفي بالغرض خصوصاًً في المجتمعات المتدينة. لذلك لا بد من الصبغة الدينية لكسب الجماهير. أول حركة احتجاج سياسية متدثرة بالدين كانت الثورة على الخليفة الراشد الثالث - رضي الله عنه - وانتهت بقتله وبفتن لاحقة ما زالت تطارد المسلمين حتى اليوم.
الحركة الأكبر والأشهر كانت ثورة الخوارج، وهؤلاء كانوا عباد ليل وقطاع طرق وأعناق في النهار. زهدهم الظاهر في الدنيا ضمن لهم الشعبية المؤقتة، إلى أن بدأ الأتباع يعانون من العنف الفوضوي والقتل العشوائي وانعدام الأمن فانفضوا عنهم وانتهت الحركة بالفشل والتشتت.
حركة الخوارج لم تكن تقبل بتحكيم ولا وفاق وتطعن في كمال التدين عند الإمامين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وهي في هذا قريبة الشبه بتنظيم الدولة الإسلامية داعش. الاختلاف بين الحركتين يتضح في درجات التقوى والتعفف الدنيوي عند الخوارج، مقابل الإجرام والإفساد والاستباحة العشوائية عند أتباع داعش، كما هو واضح في تسريباتهم الإعلامية وأغانيهم الهمجية.
من المستغرب أن تنجح عصابات إرهابية في هذا الزمن المفتوح على العلم والفكر رغم أنها ليست على شيء مقنع من الاستقامة ووضوح المنابع والانتماءات والالتزام الحقوقي الشرعي. القاعدة كانت نبتة طحلبية طفيلية على السياسات الغربية والدول الإقليمية. دولة أفغانستان الملكية قبل الغزو السوفييتي كانت متخلفة وهزيلة تعيث فيها القبلية وتجارة الأفيون ومسدودة الآفاق التنموية. غزو السوفييت لها استدعى سياسيا نفخ نفير الجهاد الإسلامي ضد الشيوعيين الملاحدة، وهنا التقت مصالح السياسيات الغربية والإقليمية مع حركة احتجاجية عنفية تلتحف برداء الجهاد. كان في داخل القاعدة والحركات الجهادية الفرعية في أفغانستان - وما زال - أمراء قبائل وتجار مخدرات وبغاء وتهريب وجواسيس للغرب والشرق، جمعتهم المصالح الظرفية فقط لا غير. لذلك عندما قرر القائد النزيه والوطني أحمد شاه مسعود حقن الدماء وتحكيم العقل ومحاولة وضع حد للجنون الشامل قامت القاعدة باغتياله.
تنظيم داعش أو تجاوزاًً الدولة الإسلامية نبتة طفيلية أخرى مثل القاعدة، وانتشر كذلك في أوساط مشابهة لأوساط القاعدة، ولكنه كان منذ البداية بقيادات وأمراء حروب ومغامرين وتجار بغاء وسبي ونهب وسلب أسوأ كثيراًً مما خالط القاعدة. منذ بداياته كان تنظيم داعش طبخة سرية محكمة من الجاسوسية العالمية المتحالفة على أطماع منطقية ومفهومة لتفكيك المنطقة وإعادة تركيبها، بما ينهي تهديد الكيان الإسرائيلي إلى الأبد ويكرس التبعيات المجزأة لتحالفات خارجية ويفتح الباب قليلاًً للطموحات الإيرانية بحجة المذهب الوحيد المتصالح مع العالم باستثناء أصحاب الأرض من العرب السنة.
الحركات الإرهابية بارعة جداًً في الاصطياد داخل المياه القذرة، ولكنها صائدة وفريسة في نفس الوقت، ولا فائدة من التناصح مع من يقع في القبضات الأمنية من مؤيديها.
يبقى المهم الوحيد الذي هو تحصين العقول الشابة ضد الاصطياد، من خلال التعامل الوطني التصحيحي المخلص مع كافة الدلالات التي تعرضت لها في بداية المقال.