د. حسن بن فهد الهويمل
مصائب ثقافتنا أنها مستباحة السوح، موطأة الأكناف للعالمين، والمتعالمين، وسقط المثقفين. وكل يَدَّعي أنه ابن بجدة المعارف، الذي لا ينازع في دقها، وجلها.وإذا قيل لهذا الصنف:- «راجع معلوماتك» أخذته العزة بالإثم، وعصفت به الكبرياء الفارغة، وانتفخت أوداجه، وصال، وجال. وكأن محارمه منتهكة، وحماه مستباح....
..وخبراء الكلمة يدركون زيف القول، ولكن البعض منهم يلوذ بالصمت، حُبّاً للسلامة، وخلوصاً من مجادلة الجهلة المتعالمين.
والمطابع لا تفتأ تضخ في كل يوم لفيفاً من الكتب الرديئة، والدراسات الفجة، والموسوعات التي لا تتوفر على منهجية سليمة، ولا على آلية دقيقة، ولا على حسن استثمار للمرجعية.
وكأن مقولة:- [خذ من هنا، وضع هنا، وقل مؤلفه أنا] تعنيهم.
وكأن أدمغتنا ناقة الأعرابي التي يقول في وصفها:-
[فأعْلَفتها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى بَدَتْ همَّالة عيناها]
فالسواد الأعظم من الكتبة والمؤلفين جَمَّاعون، لا يحسنون الترتيب، ولا التبويب. أو سراق لا يحسنون الاستتار، يَسدُّون بانتفاخهم الأفق، ويرقبون من يحمدهم بما لم يفعلوا.
والله قد توعد هذا الصنف بقوله تعالى:- لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ * وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
ومن القضايا التي لَتُّوا، وعَجَنوا فيها، وأضاعوا معارفها بين تزكية مطلقة، أو تجريم مطلق [ظاهرة الاستشراق].
سمعت بالاستشراق في مطلع حياتي، واطَّلَعْت على شيء من تاريخ المستشرقين. وكنت أقطع بعداوتهم، وخبث نواياهم، ولا أزكي أحداً منهم. ومما زاد موقفي العدائي لهم كُتيِّب أهداه لي مثقف عميق الثقافة، مطّلع واسع الاطلاع.
ولست أدري أهو إهداء إعجاب، يود مني مشايعة رؤيته، أم هو إهداء توقف، واختلاف، وهو يريد مِنِّي التصدي لمستخلصاته.
هذا الكتيب للعلامة [محمود محمد شاكر ت 1418] - رحمه الله - [رسالة في الطريق إلى ثقافتنا].
وهو كتاب متحامل، يصادر حق المستشرقين، وينحي باللائمة على من والاهم، ولا يرى لهم حسنة قط، بل يتجاوز ذلك، ويصفهم بالجهل، والتآمر، وسوء النوايا.
ومع ما نكنه من إكبار واحترام للعلامة [محمود شاكر]؛ لما هو عليه من علم لا ينازع في التراث الأدبي، واللغوي، فإنه لم ينصف الاستشراق، ولم يقل كلمة الحق فيهم. ولعل مجيء عباراته بهذا العنف ارتباطه بالرد على [طه حسين] حول [المتنبي].
ولا يضير العلامة [محمود شاكر] أن نختلف معه في مفردة من مفردات معارفه؛ إذ كل يؤخذ من قوله ويرد، إلا من لا ينطق عن الهوى.
هذا الكتيب لعب دوراً مؤثراً في الوسط الثقافي، هز الثقة بالمستشرقين، وحمل طائفة من المؤرخين والدارسين لهذه الظاهرة على مسايرته، وسلب المستشرقين كل حقوقهم.
وعيب ثقافتنا استفحال ظاهرة إلغاء الذات في الآخر، والإسراف في الإعجاب، والتزكية، حتى التصنيم.
نحن لا ننكر أبداً أن للاستشراق هفواته، وحملاته الجائرة على حضارتنا، وخدماته المشبوهة للمنظمات المشبوهة.
وإذ نسلم لهذه المهمات المغرضة نحفظ للمستشرقين مكانتهم، وإسهاماتهم الإيجابية، وحملهم طائفة من الباحثين العرب على خدمة التّراث، والتنقيب عن المخطوطات في مكتبات العالم:- [وربَّ ضارة نافعة].
المستشرقون لم يكونوا على مِلَّةٍ واحدة، ولا على مستوى معرفي واحد، معارفهم تتفاوت، ونواياهم تختلف، واهتماماتهم تتباين.
وهم ظاهرة مهمة في السياق الثقافي، لا يحسن التعامل معها إلا من أعطاه الله بسطة في العلم، ودماثة في الأخلاق. ولأنهم يشكلون ظاهرة مهمة، ومؤثرة، فقد تباينت الآراء حولهم.
ومهما انتابنا من الشكوك، ومهما اعترانا من الخوف، فإن لهم حيزهم، وهم جديرون بالاهتمام.
واختلاف الآراء والمواقف حولهم مؤشر أهمية. لقد تباين المشتغلون فيهم، سلباً، وإيجاباً.
فالمؤرخون لهم أمثال [نجيب العقيقي] حاولوا تفادي جاهزية الأحكام، وتحديد المواقف، أو تقصي الأخطاء، أو البحث عن الانتماء.
وتلك مهمة المؤرخ؛ فَهَمُّه توثيق الأحداث، والإنجازات، بصرف النظر عما ارتكبه المستشرق من أخطاء، أو تحزبات. فـ[العقيقي] أرَّخَ للاستشراق بحيادية إيجابية، تحسب له.
وهو قد تقصى تاريخهم، وعَرَّف بهم، وبجهودهم. وكتابه الذي يقع في ثلاثة مجلدات يُعدُّ إضافة جيدة.
وليس ببعيد عنه المفكر الوجودي [عبدالرحمن بدوي] مؤلف [موسوعة المستشرقين]، و[يحيى مراد] مؤلف [معجم أسماء المستشرقين]؛ فكلاهما ساق التعريف دون تدخل فكري، أو سياسي.
إلا أن [عبدالرحمن بدوي] أشمل، وأعمق، وأدق رؤية، وعطاؤه معرفي ناضج، لا يعول على النقول وحدها، ولكنه يضيف إليها من فيوض معارفه، مع حيادية [أيديولوجية]، وقومية.
وقد تحامل على [محمود شاكر] بما لا يليق عند حديثه عن المستشرق الألماني [يوسف هِلْ ت 1950م]. وفيما بين المعجميين والموسوعيين والمؤرخين تنوعت الآراء، وتناقضت المواقف.
لقد اتُّهِم المستشرقون بتوجيه السياسة التعليمية في العالم العربي، وقد تقصى هذا الاتهام الأمير [نايف بن ثنيان آل سعود].
كما اتُّهموا بالافتراء على الإسلام، وتقصى ذلك [يحيى مراد] صاحب الموسوعة. وقد تراوحت رؤيته بين القصد، والجور.
أما الدكتور [مازن المطبقاني] فقد تناول رؤيتهم الفكرية في التاريخ الإسلامي.
ولأن الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية قضية متداولة، وبخاصة عند المتذيلين [لليبرالية] الغربية، فقد تقصاها عند طائفة من المستشرقين الدكتور [عابد السفياني].
ولربما يكون [إدوارد سعيد] من بين المفكرين الذين خبروا دخائل الاستشراق، وتعاطوا معه بندية، ووعي.
ولما كانت للمستشرقين مقولاتهم الخطيرة والحساسة حول [القراءات] وتاريخ المصحف، وتطور كتابته، ومصادر التشريع الإسلامي، وبخاصة الحديث النبوي، فقد انبرى عدد من الدارسين والمفكرين للتصدي لرؤيتهم المادية، التي تُحَكِّم العقل، والتاريخ، والواقع، وتنفي النص المقدس، ولا تعول على قطعياته، فضلاً عن احتمالاته.
ولـ[إدوارد سعيد] تعقيبات، خَلَفت كتابه المرجعي، حررها [صبحي حديدي]، اشتملت على رؤى ومواقف تختلف بعض الشيء عن رؤيته في كتابه المشهور.
والمعروف لدى المهتمين بالاستشراق أن الحجاج [المؤدلج] أو [المسيَّس] ينطلق من أنساق تحكمه، ومسؤوليات توجهه، ومن ثم يفقد شطراً من المصداقية.
ولقد يجور البعض، فيجمع بين الاستشراق والبشير والاستعمار، ويعدها من قوى الشر المتحالفة، وفي ذلك تحامل قد لا يكون سديداً، وإن كان جانب من الاستشراق قد حاد عن الطريق عامداً، متعمداً.
ما أود أن أشير إليه نهوض مفكر ومؤرخ سعودي لمواجهة ظاهرتي الاستشراق والتنصير بدراسات أكاديمية منهجية مستوفية لمتطلبات البحث العلمي المجرد. ذلكم هو معالي الأستاذ الدكتور [علي بن إبراهيم النملة] الذي ألّف عدداً كبيراً من الكتب، والدراسات، التي لم تعط حقها من الدراسة.
وهي بحق تمثل الحوار الحضاري المتوازن. ولربما يكون الدكتور [علي النملة] خير من قارب ظاهرة الاستشراق بمعرفة، ومنهجية، وشمولية، وإنصاف لكل الأطراف ذات المساس بتلك الظاهرة الأكثر إثارة.
لسنا مع الذين يُزَكُّون بلا تحفظ، ولا مع الذين يتحفظون بلا استثناء. ظاهرة الاستشراق لها، وعليها. ولأن لكل مستشرق هدفه، وخلفيته الثقافية، والدينية، والأخلاقية. ولأن الاستشراق يمكن أن يقوم بمهمات استعمارية أو تبشيرية فإن على القارئ لهذه الظاهرة أن يجعل لكل مستشرق خصوصيته، ومهمته، وسمعته.
إذ هناك لدى البعض من المتصدين للاستشراق فشل معرفي، وضعف منهجي، وأداء متسطح، لا يحرر مسألة، ولا يحقق معلومة.
والمتعقبون لجهود المستشرقين يقفون على هفوات مقصودة، وأخرى غير مقصودة.
وكل هذا لا يغمط الظاهرة حقها، ولا يقلل من أهميتها.
وبدلاً من أن نموضع شخصيات المستشرقين، ونوسعهم ذماً، وسخرية، فإن علينا أن نعيد قراءة منجزهم، ونستدرك ما يمكن استدراكه، مثلما فعل [فؤاد سزكين] مع أستاذه [بروكلمان].
وليس شرطاً أن نبحث للهفوات عن أسباب. نحسن الظن، ولكن يجب أن نتوقع الإساءة المتعمدة؛ فصراع الحضارات - وإن تحفظ عليه البعض - لما يزل قائماً، ومحتملاً.
الاستشراق ظاهرة معرفية متعددة الأهداف، متنوعة المرجعيات. ومن أراد التصدي لهذه الظاهرة فليعد الزاد، والراحلة؛ فالعاطفة الدينية أو القومية تحرك، ولكنها لا تمول.
لقد فاضت المشاهد بمئات الكتب التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وهي بمجملها تشكِّل اهتياجاً فارغاً إلا من فيض العواطف.