د. جاسر الحربش
أبدأ بمثال: حتى قبل سنوات قليلة كان المعتاد إجبار من في الشارع وقت الصلاة على دخول المساجد، ولم تكن النتائج لبعض المصلين تضمن لا نية الصلاة ولا لزوم الطهارة بإسباغ الوضوء، بقدر ما كان يخالطها الطاعة للأوامر بسبب الخوف من العقاب. من ينوي الصلاة في المسجد لا يحتاج إلى من يسوقه إليه، ولا إكراه في الدين.
لست مقتنعا ً بتبريرات الاستمرار باستعمال تطويع الناس بافتراض أن الصلاح إن لم يحصل بالإقناع سوف يحصل بالإكراه. يدخل في أنواع التطويع التوقيف الاحتجازي بدون ارتكاب فعل متفق بوضوح على إنكاره، والأخذ بالشبهة، واستباق فعل متوقع لم يتم ارتكابه بعد. لست مقتنعا كذلك بما يحتج به كثيرا ً من دلالات الفساد الأخلاقي في الحياة العلنية المفتوحة للسامعين والمبصرين في الأسواق والمطاعم وأماكن العمل والإحتفالات بالأعياد والأيام الوطنية ومعارض الكتب والنوادي الأدبية.
ليست مشكلتنا الحقيقية مع الفساد الظاهر ولكن مع الفساد الخفي الذي يمارس من خلال التواصل الشبكي المشفر، بالكلمة والصوت والصورة، ومع التجمعات الماجنة في الخفاء، ومع التعديات الأخلاقية في سيارات الأجرة والمركبات الخاصة عندما يختلي سائقون أجانب بأطفال ومراهقات ونساء لا يملكون وسائل أخرى لتأدية المتطلبات اليومية مع حفظ الكرامة والخصوصية في نفس الوقت.
كذلك لست مقتنعاً بأن التضييق في الحياة الاجتماعية المكشوفة يتم عن قناعة المجتهد في التطبيق بصلاح أموره الشخصية واستقامته ولا بحاجة الآخرين إلى فرض مواصفاته عليهم، إلا أن يملك دليلا موثقا على وجود معصية منكرة ظاهرة يتفق معه المجتمع والسلطات الحكومية الثلاث على فسادها وعلى وجوب التدخل. باختصار لا يمكن لأحد إجبار آخر على فعل فضيلة يعتقدها أو تجنب معصية ينكرها، بينما هذا الآخر له رأي مختلف في ذلك، إلا أن يكون أغلب الحاضرين المشاهدين للاثنين يرون نفس الرأي. وكما قلت سابقا مشكلتنا ليست مع فساد ظاهر في المجتمع العلني المفتوح إلا فيما ندر، ومشاكلنا الحقيقية تتكثف وتتراكم في المسكوت عنه مما ذكرته قبل قليل، ولكن القدرات والصلاحيات للمراقبة والتدخل في هذه المجالات يجب أن تخضع لأجهزة حكومية تمتلك ما يكفي من الكفاءة والتجهيزات على التدخل الحاسم والسريع وجمع الأدلة الموثقة والرفع بذلك إلى الجهات القضائية المختصة.
لم يعد الزمن الحالي والتعايش الاجتماعي ومفاهيم الحياة تحتمل التدخل سوى في الواضح المتفق عليه من الأمور، لأن مفاهيم الحريات الشخصية المؤطرة بالقانون ومتطلبات حرية الحركة والعمل وكسب العيش وتأمين العناية الطبية لمن يقع تحت الوصاية والمسؤولية في كل ظرف طارئ، كل هذه أمور حياتية استجدت وسوف تزداد تعقيداتها، ومن غير الممكن التعامل معها بنفس العقليات والمفاهيم والإمكانيات التي كانت تطبق أيام بساطة الحياة ومحدوديات متطلبات التعايش.
أوضح مثال على التغيرات المستجدة نجده في تملص نسبة كبيرة من الذكور من مسؤولياتهم الأساسية وتركها للزوجة أو المطلقة أو الأرملة، بما في ذلك الإنفاق على المنزل وساكنيه. المجتمع الذي لا يستطيع إلزام الرجل بمسؤولياته الشرعية والاجتماعية لا يستطيع منع المرأة من تأمين حاجاتها وحاجات أطفالها والمسنين في بيتها، ولن يستطيع كذلك إقناع المجتمع في الحياة الإجتماعية المفتوحة بقناعاته حول حدود الصلاح والفساد.
المجتمع السعودي متدين بتربيته وتراثه وطبعه، ولم تكن أعداد المصلين في المساجد أيام الأمر والنهي في الشوارع أكبر من أعداداهم الآن. الارتباط العقدي بالإسلام سوف يستمر قويا وشاملا، وما حدث الانفكاك منه هو الالتزام القديم بالمسؤوليات العائلية الأساسية وتأمين متطلبات الساكنين فيه والإحساس العميق بالمسؤولية الأسرية والتربوية، وهذه أمور لا دخل لمراقبة الناس في الشوارع والأسواق بها ولا تستطيع السيطرة عليها، لأنها تحتاج إلى بدائل حديثة يعرفها علماء الاجتماع والتعايش البشري. هذا الزمن يحتاج إلى الإقناع والاقتناع وليس إلى التطويع والاحتجاز ومراقبة التجمعات المفتوحة في العلن.