يوسف المحيميد
منذ عقود، حينما بدأت الطفرة العمرانية في المملكة، تحديدًا في الرياض، والمدينة تفقد روحها، المتمثّلة في أنسنة الأشياء، إن لم أقل أنسنة الإنسان، الذي لم يعد إنسانًا، وإنما تحوَّل إلى شيء، إلى مجرد ترس صغير يدور في عجلة التقدم والمدنية، وفقد أهم عناصر أنسنته، وهي قدميه المنسيتين، فلم يعد يمشي إلا بضع خطوات من سيارته إلى المحل، وحتى بيته الصغير نسي جمال درجاته الرخامية، بعد ما صار يدخله بضغط زر الريموت لباب الكراج الإلكتروني!
كيف يعود الإنسان إلى طبيعته؟ كيف نعود بشرًا كما آباؤنا؟ ببساطة حينما نعود للمشي على أقدامنا المنسيَّة لمسافات طويلة، نتجول في المدينة، نشرب ونأكل ونبتاع، كما في كل مدن العالم، نتخفف من كون الرياض مدينة الطرق السريعة، نريد أن نكون أبطأ، لا نريد السرعة، نتمنى أن نتأمل كما هو الإنسان الذي خلقه الله متأملاً، وهذا لن يتحقق إلا بإعادة تصميم الرياض لتصبح مدينة الناس، لا مدينة الأشياء!
منذ عشر سنوات تقريبًا، بدأت أمانة الرياض بمشروعات صغيرة لكنها طموحة، وذلك بالانتصار للإنسان مقابل الآلة، بإعادة تصميم كثير من الأرصفة، لتصبح قابلة للاستخدام والمشي بعيدًا عن أخطار المركبات، وتهور السائقين، فنجحت في بعضها وفشلت في بعضها الآخر، ولعل معايير النجاح هو كثرة المشاة في بعضها، وندرتهم في البعض الآخر، فلا يكفي أن تكون الأرصفة واسعة، بل لا بد أن تكون مضاءة، ومشجرة، وتتوفر على جنباتها المقاهي والمطاعم، فضلاً عن ألا تدخلها السيارات إطلاقاً!
أفكر في شارع رائع، يزدان بمحلات الموضة والماركات الأكثر شهرة في العالم، أعني شارع العليا، الذي بدأ صغيرًا وقصيرًا ومتواضعًا في الثمانينات، قبل أن يمتد لعشرات الكيلومترات شمالاً، والذي سيُصبِح أكثر أهمية حينما يضم الشريان الأهم لمسار مترو الرياض، ماذا لو تحول هذا الشارع الرائع، ومع توفر خدمة المترو، إلى شارع مخصص للمشاة فقط، وحُدد فيه مسار صغير لخدمة سيارات الجولف، لكبار السن والأطفال، هل سينافس شوارع مشابهة في العالم، كشارع ثيرد ستريت في سانتا مونيكا الأمريكية مثلاً؟
ماذا لو أُنشئت مواقف سيارات سفلية وعلوية على جوانبه، أيضًا لمن سيصل إلى هذا الشارع بسيارته الخاصة، وليس بواسطة المترو أو الحافلات؟ ماذا لو أعيدت رئة الرياض، شارع العليا، كيف يتنفس أهل هذه المدينة الهواء من خلاله؟ ماذا لو أقيمت الاحتفالات فيه؟ ماذا لو تُرك للهواة والفنانين عرض أعمالهم في وسطه، أمام الناس، وفي الهواء الطلق؟ أظن أن التجربة هذه المرة ستكون ناجحة بكل المقاييس، ولا يمكن مقارنتها بتجربة شارع المتنبي في الملز، الذي خُصص للمشاة فقط، أواخر الثمانينات، لكن ذلك المكان، والتسهيلات المتوفرة آنذاك، والتنفيذ للمشروع، لم تكن مناسبة إطلاقًا، فعلينا حين ننفذ تجربة ما أن ندرسها جيدًا، وندرس كل الاحتمالات عند الاستخدام، وألا ننسى أبسط التفاصيل، وأن نستفيد من تجارب دول العالم في الحالات المشابهة... عندها يمكن القول إن الرياض مدينة الإنسان، وأن قلبها، شارع العليا، عاد ينبض من جديد.