د. عبد الله المعيلي
لقد ميز الله بني آدم عن غيرهم من المخلوقات بنعم عظيمة كثيرة جلى، ومنها نعمة العقل، لا ريب أن هذه النعمة تتفاوت من إنسان إلى آخر، بدرجات تبدو واضحة في القدرات ومستويات الإدراك والفهم، وحدود التعامل مع المعطيات والمثيرات التي يتعرض لها الإنسان في مسيرته الحياتية، يعرف بموجبها الصح من الخطأ، المسموح من الممنوع، الممكن الخوض فيه مما لا يمكن وفق المعايير والقوانين المتوافق عليها في محيطه الاجتماعي.
ووفقا لهذا، هناك أمور يسمح الخوض فيها وتناولها نقدا وتصحيحا، وأخرى تعد مقدسات أو مسلمات أجمع المجتمع على تزكيتها، وذلك اعترافا بفضلها نظرا لعلمها ولما قامت به من جهد لصلاح المجتمع والمحافظة على دينه وسلامة معتقده، وإرشاده إلى سبل التقوى والرشاد، فهذه الرموز أرقى وأسمى من أن يتعرض لسيرتها أي كائن من كان، مهما كان اجتهاده، والمسوغات التي يتكئ عليها في تبرير السماح لنفسه بالخوض في تاريخها وما قدمته من جهد لضمان سلامة الدين والقيم والأخلاق.
من المؤسف بل المخجل أن هناك من يطل برأسه بين حين وآخر تحت مظلة حرية إبداء الرأي، يطالب بتعريض هؤلاء الأفذاذ - مثل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم - تعريضهم للنقد تحت ذريعة كونهم سببا في نشوء بعض صور الإرهاب التي نكتوي بنيران انحرافها الفكري و وضلال معتقدها و انحراف سلوكها.
إن هؤلاء الأفذاذ قد رضي الله عنهم وتمت تزكيتهم من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (100) سورة التوبة، وزكاهم رسول الله؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فو الذي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه البخاري (2509) ومسلم (2533)، هذه تزكيات من رب العالمين الأعلم بحال هؤلاء الأفذاذ، المطلع على سيرهم وما قدموه من خدمة للإسلام حتى بلغت الرسالة المحمدية آفاق الدنيا شرقاً وغرباً.
إنه الحول الفكري بعينه، عندما يطالب مجتهد وهو لم و لن يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، يطالب بنقد سيرهم والخوض في تاريخهم، تحت ذرائع وأوهام يعتقدها، إنه عمى البصيرة، وإلا من ذا الذي يخول لنفسه ويجرؤ على المطالبة بنقد نخب حظيت بتزكية الله ورسوله.
وبعد هؤلاء وأولئك زادت الجرأة والتمادي حتى طالبوا بنقد الصحابة، زاعمين أن عدم نقدهم أفضى إلى صناعة هذه الصور المأساوية البشعة التي نعاني منها اليوم، صور القتل والخروج وسفك الدماء والتعدي على الأنفس.
وبعد هذه المطالب النقدية، من بقي؟ من التالي؟