د. عبدالرحمن محمد السلطان
تسببت الكيفية التي تمت بها عملية تخصيص الهاتف السعودي من خلال إنشاء شركة الاتصالات السعودية عام 2003 في وأد برنامج التخصيص في المملكة، رغم إقرار مجلس الوزراء في عام 2002 لإستراتيجية تستهدف تخصيص 20 قطاعا حكوميا.
فالنموذج الذي طبق في تخصيص الهاتف السعودي معاكس تماما لما يجب أن يكون عليه أي برنامج تخصيص حقيقي وناجح، حيث لم يشتمل على أي إجراءات تقشفية تستهدف تخفيض التكلفة التشغيلية للجهاز في مرحلة ما قبل التخصيص، وعلى العكس من ذلك أطلق العنان للتكاليف التشغيلية لترتفع بقوة بما في ذلك رفع مخصصات العاملين بشكل كبير ولم يفقد أي شخص وظيفته بسبب إطلاق عملية التخصيص، ومع كل ذلك فقد نجحت عملية التخصيص الجزئي لشركة الاتصالات إلى حد كبير، ما أوجد لدينا تصوراً مغلوطاً وخاطئاً عما يعنيه التخصيص وكيفية تنفيذه.
فالارتفاع الكبير جداً في إيرادات شركة الاتصالات السعودية خاصة مع النمو الهائل في إيرادات الهاتف الجوال أسهم في إنقاذ مشروع تخصيص شركة الاتصالات السعودية وإخفاء عيوبه القاتلة، بالتالي لم يظهر خطأ النموذج في ظل محافظة الشركة على مستوى عال من الربحية، بحيث بدا النموذج المطبق كما لو أنه مثال ناجح يحتذى به، وبالتالي لم ندرك أنه نموذج لا يمكن أن ينجح في أي من القطاعات الأخرى المرشحة للتخصيص، كونها لا تملك الوفرة المالية نفسها التي تملكها شركة الاتصالات السعودية، وأي ارتفاع في تكاليفها التشغيلية في مرحلة ما قبل تخصيصها يجعل عملية تخصيصها مستحيلة.
فبموجب هذا النموذج الخاطئ فقد أصبحت أولى خطوات إعداد أي جهاز حكومي للتخصيص في المملكة هي تحرير الجهاز المرشح من قيود الأنظمة المالية والإدارية الحكومية مع عدم مطالبته بتطبيق أي من معايير كفاءة الأداء في القطاع الخاص.
أي خلق بيئة مناسبة لحدوث مبالغة حادة في التكاليف التشغيلية للجهاز المرشح للتخصيص، بحيث نجد أنه في مرحلة ما قبل التخصيص تُرفع المخصصات المالية للعاملين وتتزايد التكاليف التشغيلية الأخرى بشكل هائل، دون أن يدرك أو يهتم من يقومون على برنامج تخصيص تلك الأجهزة أن ما يقومون به ليس خطوة في طريق التخصيص وإنما عقبة تجعل من المستحيل نجاح عملية تخصيص هذا الجهاز مستقبلا.
بينما كان المفترض أن أي مرونة مالية أو إدارية تمنح للجهاز المرشح للتخصيص في مرحلة ما قبل التخصيص تستهدف إعطاءه قدرة أكبر على التعامل بحزم مع مشكلاته القائمة ومعالجة ما يعانيه من تدن في كفاءة الأداء فيطبق برنامج تقشف شديد لا أن تستغل في رفع أجور العاملين وزيادة مختلف المصروفات التشغيلية، فارتفاع التكاليف التشغيلية ينتج عنه تدهور مستمر في التوازن المالي للجهاز المرشح للتخصيص فيفقد جدواه الاستثمارية ويصبح الحل في بقائه جهازا حكوميا، أي أننا في واقع الأمر قد أعقنا عملية التخصيص ولم نطلقها، وكل ما نتج عن ذلك هو فقط رفع هائل في تكلفة هذا الجهاز على ميزانية الدولة لا أكثر.
لذا نجد في المملكة أن موظفي أي جهاز مرشح للتخصيص هم على أحر من الجمر ينتظرون وصول قطار التخصيص إليهم، فإطلاق عملية التخصيص لا تعدو أن تكون بالنسبة لهم فرصة رائعة لحدوث ارتفاع كبير في مخصصاتهم ومميزاتهم المالية، ولا يعني مطلقا خفضا كبيرا مؤكدا في عدد العاملين وفي أجور من بقي منهم كما يترتب على أي برنامج تخصيص في أي بلد آخر في العالم. وما لم نكن مستعدين لمسح هذه الصورة المغلوطة من أذهاننا عما يعنيه التخصيص فعلينا صرف النظر عنه تماما، فكل ما نراه من خطوات تستهدف تأهيل بعض الأجهزة الحكومية للتخصيص هي عكس ما هو مطلوب وضروري لتحقيق ذلك وتجعل التخصيص في الواقع أصعب وأبعد.
في المقال التالي: كيف يمكن أن ننجح برنامج التخصيص في المملكة؟