ياسر حجازي
(1)
القول: إنّ النسيانَ نعمةٌ، يتجاوز فعل النسيان وعنف انفلاته على وظائف الذاكرة، وبالتالي، هو قولٌ مبتورٌ؛ فأثرُ النسيان على الإِنسان نعمةٌ ولعنةٌ، فأنت تنتهك الإِنسان وتجرح من روح مرضى الزهايمر وأهلهم حينما تعتبر: (النسيان مجرّد نعمة)، هكذا لمجرّد شهوة تقليد كلام موروث دون إخضاعه للعقل والواقع.
النسيانُ لا يكون نسياناً بمعنى المحو والإزالة إلاّ وتلحقه دلالات تهدّد من وجود الذاكرة والإِنسان معاً، هكذا لا تستطيع أن تفصل الإِنسان أو أنّه شيء آخر غير الذاكرة، لذلك لا يكون النسيان على معنى المحو طبيعيّاً، وحينما يوجدُ فإنَّ الإِنسان يتهدّد في إِنسانيّته وما تمتاز به، فكأنّ أعمال الحواس كلّها تحت أمر الذاكرة، وإذا ما طرأ النسيان / المحو الذي هو بمعنى نفي الذاكرة تعطّلت تلك الحواس وفقد الإِنسان الوظائف.
النسيان الذي يطرأ على الإِنسان، يكون على الحالتين: النسيان / الإخفاء بوصفه جزءاً من الذاكرة، والنسيان / المحو بوصفه نقيض الذاكرة، وكلاهما لا يستقيم معهما تعريف واحد يجمع بينهما، فالنسيان الذي هو جزء من الذاكرة هو ذاكرة بطريقة أو بأخرى: (كما حال حذف الملفات من شريحة ذاكرة، لا تذهب عدماً إنّما تبقى في الشريحة)، بينما (النسيان) إذا استخدم على أساس أنه نقيض الذاكرة فهو خارج الذاكرة نهائيّاً / هو إتلاف الشريحة.
(2)
من مصادفات اللغة أنّ مادة (نسي) عند ابن فارس في مقاييس اللغة على دلالتين: (إغفال الشيء، وترك الشيء)، (والنسيء: تعني التأجيل، المتأخّر، الاجل..) وهو ما أزعم أنّه فعلٌ حادثٌ في الإِنسان.
النسيان / الإخفاء عملٌ من أعمال الذاكرة بحيث إنّ التذكّر نفسه هو إحضار المؤجّل المنسي في أرشيف الذاكرة، من العتمة إلى الإضاءة الذهنية، من المجهول إلى المعلوم.
ونحن حينما لا نقوى (على نسيان) حدثٍ بعينه أو موقفٍ، بينما هناك قرار ذهني وأمر من النفس إلى الذاكرة بالتوقّف عن عمل (التذكّر)، فإنَّ هذا العجز في تحقيق النسيان / التأجيل تحديداً يخبرنا: (أن النسيان ليس فعلا إرادياً)؛ فعجزك عن تنفيذ رغبة النفس بإدراج ما يزعجها في أرشيف النسيان / المؤجّلات / المغيّبات / المنسيّات هو إثباتٌ على عدم وجود النسيان كفعلٍ واع يتبع قراراً ذهنياً ورغبة نفسيّة، كما هو حال فعل التذكّر، فالتذكّر موجود وإن لم يكن على كلّ محتويات الذاكرة، والتناسي تحايل... فالتناسي لفظة أو فعل لا يقابل التذكّر، بل هو جزء من الادعاء.
(3)
التذكّر فعل إراديٌّ وحدثٌ لا - إراديٌّ، كلاهما معاً متّصلان أو منفصلان.
النسيانُ حدثٌ محضُ لا - إرادي.
(4)
قولنا المكرور: (لست أنسى، لست أنساك..) هو في حقيقته غير ممكن التحقّق بالإرادة، وبالكاد يمكن تبريره عبر مجاز اللغة، لحالة أخرى ممكنة التحقّق؛ فالنسيان ليس فعلاً إراديّاً حتّى يتّخذ المرء قراراً بالقيام به أو عدم القيام به؛ النسيان حدث وحالة لا - إراديّة، عفويّة لا - قصديّة، هي جزء من عمل الذاكرة في أرشيفاتها، وما يمكن أن يكون محتملاً لهذا المجاز، حالة: (أذكرك)، فالتذكّر قرارٌ إراديّ ولا - إرادي، وعليه يمكن أن يخضع الكلام للتحقّق، بعيداً عن جسارة القول الشعري وكسره لحدود المنطق والواقع.
هكذا يكون النسيان هو الدفتر ويكون التذكّر هو قراءة هذا الدفتر؛ ولذلك حينما رحت أبحث في ذاك الدفتر (المحروق عمداً) - رحت أبحث في ذاكرتي عن طريق التذكّر، فكان أن سمّيت الكتاب: (أتذكّر)... حتى يقذفني الحوت إلى البريّة.. علماً بأني نشرت حلقات منه في الثقافيّة، دون الإشارة إلى كلمة (أتذكّر).
(5)
التذكّر هو الجزء الأصغر، بل الضئيل من عمل الذاكرة في استحضار ما تمّ أرشفته في المنسيّات والمهملات، فقدرة الدماغ لا تتحمّل عمل التذكّر لجميع محتويات ومخزونات الذاكرة وجميع ملفات الأرشفة المتوارية من كلامٍ وصورٍ ومشاهد وروائح وملموساتٍ وأحاسيس وحالات خاضعة لتقلّبات النفس بين مقولاتها ومواقفها.
(6)
ما أخفته الذاكرة عن الذكريات: ليس جميع المخفي في أرشيف الذاكرة أو دفتر النسيان على الأهميّة نفسها، أو أنّ جميعه يحظى بالأسباب نفسها. فالمخزون الأكبر المهمل لا قيمة له كي يُسرد في جلسة ثرثرة، والأحرى ألا يُنشر أو يجهد المرء في استحضاره بطريقة ما، إلقاءً أو كتابةً أو حتى تأمّلاً بينه وبين نفسه، لكن البحث في المهمل يمكن أن يوصلك إلى صفحات في دفتر النسيان مهمّة ما كنت تدرك قيمتها حين وضعتها في الدفتر.
ما أخفته الذاكرة هو جزء مطموس عمداً، تمّ إخفاؤه بنيّة مُسبقة، لأسباب ربّما يكون ذكرها أعنف من نتائجها، فالنتائج عادة لا تُخفي لأنّها حالة ردّة الفعل، الأسباب هي التي نطمسها.
(7)
يحدث أنّك تذكرُ ما ترغبُ في نسيانه؛ أو ذاك الضامر في نفسك موؤوداً: مَنْ علّمه السهر؟
البوحُ طريقُ النسيانِ: تقول الذكرى.
يحدث أنّك تذكرُ ما تخشى البوحَ به:
o أوّل أشيائك، كيف بدأت ترى بعيونٍ مختلفة.
o كيف تلصّصت على موتى بقارعة الطرقات والدكاكين مقفلة.
o كيف تلصّصت بين أوراق أبيك.
o أوّل زقزقة للعصافير في جسدك.
o أوّل خوفٍ من عاقبة القانون.
(8)
الماءُ فعلٌ، والعطشُ ردّةُ فعلٍ لغياب الماء؛ الماءُ سببٌ والحياةٌ نتيجةٌ. فهل النسيانُ سببٌ والتذكّرُ نتيجة؟
وأنتَ أيها الحقلُ: «تذكّرْ صنيعي»؛ أردّدُ ما يقول الماءُ وتسمعه الحياة.
(9)
في صغري كنتُ أدوّن في دفترٍ أخطاءً ارتكبتها، ولا أريد تكرارها، وأخرى أريد نسيانها / لا أريد تذكّرها، لكنّها تُصرّ أن تبقى في ذاكرتي، ولا أذكر من علّمني هذه الحيلة؛ على العموم، لم تفلح حيلة التدوين في تحقيق فعل النسيان، لكنّها ساعدتني في التخفيف من أثر حملان الخطأ وتأنيبه على النفس. والغريب في هذا الدفتر أنّه (كان) معكوس دفتر الذكريات، فإذا كانت هناك موضة للمراهقين بتدوين مذكّراتهم / يوميّاتهم، فلقد كنتُ على عكس من ذلك أدوّن ما أطمح في نسيانه ولا أريد تذكّره، وهذا وجه من وجوه دفتر النسيان، أو ما أخفته الذاكرة عن الذكريات.