د. جاسر الحربش
الانتشار الاجتماعي للمعارف العلمية والثقافات الإنسانية هو الحل الوحيد لتحصين العقول ضد العصبيات والأنانيات والكره المتبادل. لم يتخلص الغرب قبل الآخرين ثم اليابان وكوريا وماليزيا من هذه الآفات إلا بعد إدراك أنظمته ومجتمعاته لمركزية العلوم والمعارف والثقافات في عملية الاستقرار. قبل ذلك كانت جميع المجتمعات البشرية تهاجم بعضها لنفس الأسباب بطرق تبادلية وذلك بسبب قصور المفاهيم لشروط الحياة. كوريا الجنوبية حتى بداية السبعينيات من القرن الماضي كانت لا تختلف كثيراً عن شقيقتها الشمالية، وبعد الانطلاقة المعرفية فيها أصبح الفارق بين الشمال والجنوب ما يشاهده العالم.
زيارة واحدة إلى مركز أبحاث علمية في دولة من العالم الأول تكفي للوصول إلى الإدراك الحقيقي لأسباب تردي الأوضاع في الشرق الأوسط، ولتوضيح دور الجهل المعرفي في اختفاء الاستقرار والازدهار والتعايش لصالح سيطرة العصبيات العنفية البدائية. جولة مثل هذه هناك تكشف للمشاهد العربي مثلاً كم أن عالمه فقير وضامر عقلياً ومعرفياً، وكم هو أساسي تشارك العقول في البناء والاستكشاف بمعزل عن تصنيفات المذاهب والأعراق والأصول.
عندما تتجول في مختبر علمي عندهم تلاحظ أن الهندي والصيني والأبيض والأسود والعربي والإيراني وكل أعراق الأرض تتواجد في نفس المكان لهدف واحد، تعمل بهدوء وشغف، تتبادل المعلومات، تأكل في نفس الصالة وتفرح وتهلل بصوت واحد عندما يحقق زميل أو قسم في المركز إضافة علمية للمجتمع الذي أطلق لهم الحريات كفريق علمي متجانس.
من طبائع العلوم المعرفية والأبحاث أنها تتسامى فوق العصبيات لتحقيق هدف مستقبلي واحد، وأنها تركز على جمع النواتج النظرية والتطبيقية في مسار واحد لصالح الجميع، الدولة والحكومة والمجتمع، ثم لبيع العالم المتخلف ما يحتاجه من هذه الإنجازات مقابل أثمان باهظة. العقلية الحقيقية للعلم والعلماء لا تعترف سوى بمبدأ العلم للعلم ونحو المستقبل، بهدف دفع البشرية خطوات إلى الأمام نحو الاكتفاء من الطاقة والغذاء والصحة والدفء، وهي كلها محاولات لجعل الحياة أسهل وأجمل وتستحق أن تعاش.
للأسف هذا الهدف غير متضمن في الانتماءات الإيديولوجية بكل أنواعها، لأن من طبائع الإيديولوجيات التصارع والإلغاء المتبادل. ترك الحريات التعبدية والاجتماعية للضمير، داخل الإطار الانتفاعي الواسع والجامع، ذلك هو ما يخدم التقدم والاستقرار والتعايش الشامل في الداخل والحصانة ضد الخارج.
العصبيات والإيديولوجيات تحفر في الماضي لتستخرج منه رفات التاريخ وعداواته، أما العلم البحثي والتطبيقي فمهمته التنقيب في المستقبل تاركاً خلفه مساوئ الماضي للذين صنعوه واختفوا معه وللذين ما زالوا مختلفين عليه.
من آن لآخر تتكرم بعض الفضائيات العربية ببث فلم وثائقي عن رحلة علمية إلى أعماق الكون المتناهي كإنجاز لدولة متقدمة، فيلاحظ المشاهد أن الطواقم العلمية الغربية والروسية واليابانية والكورية والهندية والصينية متشاركة مع بعضها وتتعاون لتحقيق أهداف الرحلة الاستكشافية في جميع مراحلها. الهدف المعرفي الاستكشافي أسقط من حساباته كل الانتماءات السياسية والجغرافية. هل يوجد في العالم العربي والإسلامي ما يستحق مسمى البحث العلمي على طريقة العلم للعلم ولخير الجميع؟. الجواب قطعاً لا عريضة وطويلة ومجلجلة. نعم ترصد أموال لا بأس بمقاديرها تحت بنود الأبحاث العلمية، لكن أكثرها يذهب للرواتب والشللية والانتدابات والمكاتب والمباني. النزر القليل المتبقي من المال يبعثر على إدعاءات إنجازات علمية كاذبة وملفقة أو مسروقة.
العالم العربي بالذات وهذا ما يهمنا هنا يستهلك نفسه وزمنه وإمكانياته في الاستنفاع الطبقي والصراع العقائدي والمذهبي، ولذلك يبقى مفلساًً ومكشوفاًً مهما كذبت مؤسساته الإعلامية على شعوبها. الحال من بعضه في كل العالم العربي، وما هو موجود داخل التركيبات الاجتماعية موجود بنفس الكم والكيف داخل ما يسمى المؤسسات البحثية والعلمية العربية.
من المستحيل القضاء على الإرهاب المذهبي والعصبيات القبلية والمناطقية والاجتماعية بدون إعطاء الأولويات كلها للمعارف العلمية والأبحاث لتحسين المستقبل، بمعزل عن أية انتماءات أخرى. على من يدعي العكس إعادة النظر في واقعه الذي يعيشه هو شخصياً داخل بوتقته الاجتماعية، وأن يفكر جدياً إلى أين يقود ذلك عالمه الذي ينتمي إليه ويتعصب له.