اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
عام.. أدهش الأنام
طالما حدثتكم حديث الوفي المخلص المحب، عن والدنا سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، وأدام نصره وتأييده، الذي احتارت الكلمات في وصف خصاله الطيبة الكريمة، وسرد صفاته الحميدة، وحصر قدراته القيادية الفذّة، وذكر أعماله الفريدة، وإنجازاته التي تنتصب شامخة، تشهد لمقامه الكريم بما بذله من جهد، خلال ما يزيد عن نصف قرن من العمل الدؤوب، كان يصل فيه الليل بالنهار، بكل تجرد وإخلاص ونكران ذات، خدمة للدين والوطن والأمة، وسعياً لتحقيق الخير للإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، هذا الخير الذي يحرص سلمان على بذله بسخاء وطيب نفس في كل ربوع الدنيا، لدرجة أنه لو كان للخير أن يتجسد في هيئة رجل، لكان اسمه سلمان.
أجل.. حدثتكم عن كفاح سلمان وذكائه وبديهته الحاضرة دوماً، وعن نفسه الكريمة ويده السخية الممدودة بالخير دائماً، وعطفه وحبه لشعبه وإخلاصه لعقيدته وسعة صدره، وثقافته الواسعة وعشقه للأرض وحبه للتاريخ ومعرفته بكل تفاصيله، وإلمامه بالأنساب ودبلوماسيته الهادئة الرزينة، وعلاقاته الوطيدة بزعامات العالم من ملوك وسلاطين وأمراء ورؤساء وزعماء في كل المجالات، وقيادات سياسية مختلفة المدارس والاتجاهات، وحنكته الإدارية وموهبته الصحفية وحبه للقراءة والاطلاع.
نعم.. حدثتكم عن وفاء سلمان وحبه لإخوته واحترامه لهم وحرصه على خدمتهم، وعدّدت لكم بعض صور وفائه التي تدركونها كلكم، من ملازمته للراحل الكبير الفهد في المستشفى حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ثم ملازمته للراحل الكبير أيضاً سلطان الخير، ونايف النايف وعبدالله حبيب الشعب، وسطام صديق العمر ورفيق الدرب في خدمة الشعب.. وفاءً أدهش الوفاء، فلم أجد وصفاً لصاحبه غير (أوفى من الوفاء) بل أدهش حتى سلطان الخير، وهو من هو في وفائه وجوده وكرمه وسماحة نفسه، فلقبه سلمان بـ(مؤسسة الخير).. فلم يجد سلطان وصفاً لوفاء سلمان أبلغ من (سمو الوفاء.. ووفاء السمو) وصحيح أنه أبلغ وصف لوفاء سلمان حتى الآن، إلا أننا كنا نتمنى أن تتسع اللغة للتعبير أكثر عما نعرفه لهذا الرجل الكبير والقائد البطل الفذ الأصيل من وفاء وصفاء.
أجل.. حدثتكم عن وفاء سلمان ورقة عطفه، لكن حدثتكم أيضاً عن قوة عزمه الذي لا يلين، فقد رأيناه في كل مرة يودع فيها أحد إخوته الثرى، حاملاً نعشه، ودموعه تسبق كلماته، يعود من المقبرة إلى العمل ليشغل مكانه، فما أن ودّع فهد حتى عاد يرتب شؤون الحكم مع بقية إخوته، وما أن ودّع سلطان حتى عاد إلى مكتبه في وزارة الدفاع يقوم بدوره، وما أن ودّع نايف حتى شغل مكانه في ولاية العهد، وما أن ودّع سطام ورافق جثمانه في سيارة الإسعاف، حتى خلّد اسمه، فتنازل عن اسمه في جامعة الخرج، ووجّه بتسميتها بـ(جامعة سطام) بدلاً من (جامعة سلمان)؛ وما أن ودّع عبدالله حتى شمّر عن ساعديه، وتولى قيادة الأمة وحمل اللواء، كاتماً كل مشاعر الحزن والألم على رحيل أولئك الزعماء الأشاوس، الذين ساروا على درب المؤسس في حمل الرسالة وخدمة الأمة، مدركاً أهمية المرحلة التاريخية، ولأنه كان (ملكاً غير متوج) لأكثر من نصف عقد من الزمان كما يعلم الجميع، انبرى سلمان لترتيب شؤون الحكم في الساعة الأولى التي نعى فيها الناعي رحيل أخيه عبدالله.
وكما قلت من قبل، تختزن ذاكرة كل واحد منّا آلاف الصور التي تجسد وفاء سلمان، ويصعب على كل من يكتب عنه ألا يشير إلى شيء منها، ولهذا أكتفي هنا بإشارة سريعة لوفائه بتشريفه لإخوته الكبار وزيارته لهم في دارهم، إذ زار خلال أسبوع واحد إخوته الأمراء بندر ومشعل وطلال، وأخواله السدارى، كما زار أيضاً الأمير خالد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن؛ ودعا شقيقه الأمير عبدالرحمن بن عبدالعزيز إلى قصره العامر بعرقة، وأقام له مأدبة عشاء؛ وأفسح له المجال ليجلس على كرسيه في صدر المجلس، ثم يجلس سلمان وهو الملك، إلى يسار أخيه، ويخاطبه بلطف وأدب جم، بل يقف معه كلما وقف الأمير عبدالرحمن لمصافحة من يقدم للسلام عليه، ويقبل يده عند استقباله ووداعه. ثم يودعه حتى باب السيارة بعبارات الحب والصدق والوفاء: شرفتني طال عمرك. فيرد الأمير عبدالرحمن: أكرمكم الله. ولم يتخل سلمان قط عن دوره الاجتماعي، الذي يرسخ هذا الوفاء المدهش، حتى في قمة زحمة العمل. فقد رأيناه يزور الشيخ ناصر الشثري في المستشفى، ثم في داره ليطمئن عليه بعد مغادرته لها، ويزور مستشاره الخاص سابقاً، الأستاذ عبدالله البليهد (وكيل إمارة منطقة الرياض سابقاً) في المستشفى أيضاً، ويقف إلى جوار سريره ممازحاً ومحتفياً به، لا جالساً، ويده الكريمة على سرير البليهد، في لفتة إنسانية لا يجيدها غير سلمان الوفاء. ويفعل الشيء نفسه مع الشيخ محمد بن عودة السعودي، رئيس تعليم البنات سابقاً.. إلى غير هذا من زياراته الاجتماعية لمختلف المناسبات والأسر. ويشرف أعيان المجتمع وأمراءه في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة في بيوتهم، فيجالسهم ويشاركهم الطعام ويمازح صغارهم. ويزور نساء الأسرة اللائي يلدن في المستشفيات مهنئاً وحامداً لهن الله على السلامة، فيحمل أطفالهن ويباركهم. والمدهش المذهل حقاً، أن سلمان يفعل هذا ويدير حرباً لنصرة الأشقاء في اليمن، وتتزاحم الوفود إلى الرياض من كل فجاج الأرض: زعماء الدول العربية، أمريكا اللاتينية، أعضاء المعارضة السورية، الشرعية اليمنية وزعماء العالم من هنا وهناك.. ألم أقل لكم كم هو مدهش هذا القائد الشامل؟!
نعم.. حدثتكم عن شجاعة سلمان وإقدامه ودهائه وصبره وتصميمه، وقوة إيمانه بخالقه وثقته في نصره، وحمده وشكره لما أفاء به سبحانه وتعالى على هذه البلاد الطاهرة من خير ونعم وأمن واستقرار، وتشريف لأهلها بخدمة الحرمين الشريفين ورعاية شؤون الحجاج والمعتمرين والزوار من كل فجاج الأرض، ويقول سلمان في هذا: (إن هذه الدولة في خدمة الحرمين الشريفين، ويشرف ملكها أنه خادم الحرمين الشريفين، وهذا منذ عهد الملك عبدالعزيز إلى اليوم، والحمد لله، مكة تهمنا قبل أي مكان في الدنيا هي والمدينة المنورة). كما حدثتكم عن حزمه الذي عرفه القاصي والداني، وبغضه للكذب والتملق والنفاق والعمل في المنطقة الرمادية، والتردد والخذلان والغدر والخيانة.. أجل حدثتكم كثيراً عن هذا الرجل الذي لا أعرف له شبيهاً غير والد الجميع، المؤسس الباني الملك عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه، ومع ذلك، لا يزال في النفس الكثير الذي تعجز الكلمات عن التعبير عنه.
والحقيقة، يصعب على كل باحث، بل قل على كل الباحثين والمهتمين وإن اجتمعوا، حصر صفات هذا القائد الفذ، ولهذا أكتفي هنا بما جاء على لسان الشاعر عطاالله العطاالله، في قصيدته التي نشرت بجريدة الرياض، الثلاثاء 11-3-1437هـ، العدد 17347، ص 41، إذ يقول:
سلماننا اللي جامع كل الألقاب
القول قوله والحزم في فعوله
سلماننا للعز والطيب كسّاب
ما في أحد بالطيب مثله وحوله
واليوم، أود أن نطوف معاً لنلقي نظرة سريعة على حصاد هذا البطل الفذ والقائد الهمام الشامل، مسك الملوك وعنبر الحكام وصفوتهم، خلال عامه الأول في سدة الحكم، وإن كنت أعلم أن المهمة ليست سهلة، كما أكد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي قال، وقد صدق: إن سلمان حقق في أسبوع واحد ما عجز عن تحقيقه زعماء كثر في عام كامل. ولهذا ربما وجد كل من أراد تناول هذا الموضوع الاكتفاء بالإشارة لبعض الإنجازات المهمة، كما سيفعل محدثكم اليوم. ففي الساعة الأولى لرحيل أخيه عبدالله، عكف سلمان يرتب شؤون الحكم ويعيد صياغة مجلس الوزراء، فيصدر في أسبوع واحد أكثر من أربعين قراراً ملكياً، ولا يعني هذا اعتراضاً على سياسة سلفه، بل هو تنظيم تقتضيه المرحلة، كما هو الحال في كل عهد في مختلف دول العالم، ثم يعلن للملأ: لن تأخذنا لومة لائم في مفسد أو خائن أو مقصر في حق مواطن.
زعيم الأمة
سبق أن أشرت إلى أن سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، حفظه الله ورعاه، كان (ملكاً غير متوج) لأكثر من نصف قرن، يدرك لعبة الأمم وخفايا السياسة العالمية، وأوضاع العالم وأطماع مختلف القوى في منطقتنا، وتعقيدات المنطقة الجيوسياسية، وتقاطع المصالح، وأهمية بلاده ودورها الريادي في هذا المشهد المعقد، لمركزها الاقتصادي، وموقعها الإستراتيجي، وسياستها الرشيدة، وزعامتها للعالمين الإسلامي والعربي، ودورها المحوري في اقتصاد العالم واستتباب أمنه. ولهذا لا غرو أن اتخذ قراره الحازم الحاسم بشن عاصفة الحزم لنصرة الأشقاء في اليمن، للوقوف إلى جانب الشرعية في ضوء قرارات الأمم المتحدة والجامعة العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية.
والحقيقية أقول بكل صراحة، بل بكل صدق وأمانة، أنني لم أعرف قائداً اتخذ مثل هذا القرار الصعب في هذا الوقت الوجيز غير سلمان الحزم والحسم والحنكة والحكم الرشيد، الذي لا يضام له جار ولا يظلم عنده أحد.
أجل.. تفاجأ كثيرون باتخاذ سلمان هذا القرار، خاصة أنه لم يكد يمضي على تسلمه سدة الحكم فجر الجمعة 3-4-1436هـ، الموافق 23-1-2015م، واتخاذ القرار منتصف ليلة الخميس 6-2-1436هـ، الموافق 26-3-2015م، أكثر من شهرين اثنين ويومين اثنين أيضاً. بل أكاد أجزم أن المنشقين في اليمن لم يكد يدور بخلدهم أن سلمان سيقدم على اتخاذ قرار كهذا، مما جعلهم يعيشون ذهول المفاجأة حتى اليوم.
صحيح.. قد يتساءل كثيرون، كيف تسنى لزعيم أن يُكوِّن تحالفاً صلباً قوياً راسخاً صادقاً، يضم عشر دول خلال أسبوع واحد تقريباً، ثم يقوده لنصرة اليمن الشقيق، في عملية يدرك سلمان أنها لن تكون سهلة، غير أنها ليست مستحيلة على بطل جسور همام مثله، لأنه يعرف حجم التحدي وعمالة المنشقين لإيران ودعمها السخي لهم لتنفيذ مخططاتها في شق صف الأمة العربية وتفتيت عضدها والعبث بمقدراتها والاستيلاء على خيراتها والتحكم في مقدساتها، وبسط سيطرتها على المنطقة برمتها، في سباق واضح لتحقيق النفوذ والتفوق على الآخرين، خاصة أن زعماءها قد عبروا عن هذا صراحة، وسعوا حثيثاً لتجنيد العملاء وامتلاك القوة اللازمة لتنفيذ أجندة الدولة الفارسية العنصرية، ليس باندلاع ثورة الخميني عام 1400هـ (1979م) والعمل على تصديرها لدول الجوار والعالم الإسلامي، بل منذ القرن السادس عشر، بل قل حتى قبل ظهور الإسلام، يوم كانت المعارك تدور سجالاً بين القبائل العربية والفرس، وكان النصر لقبيلة إياد في آخر معركة بينهما، وكان صعباً على الفرس ابتلاع الهزيمة، فأعد كسرى جيشاً قوامه ستين ألف محارب لإعادة الكرة على قبيلة إياد. فثارت حمية لقيط بن يعمر الأيادي، الذي كان يعمل آنئذٍ كاتباً في بلاط كسرى، فنظم قصيدة يحذر قبيلته فيها غدر الفرس، واصفاً استعدادهم للمعركة، مناشداً قومه وحدة الصف وجمع الكلمة، قيل إنه لم يعرف العرب حتى اليوم قصيدة أفضل منها في موضوعها، وهي قصيدة طويلة تتكون من اثنين وثلاثين بيتاً؛ جاء فيها:
يا أيُّها الراكب المزجي على عجل
نحو الجزيرة مرتاداً ومنتجعا
أبلغ إياداً وخلِّل في سَراتِهم
إني أرى الرأي إن لم أعْصَ قد نصعا
يالهف نفسي أن كانت أموركم
شتَّى وأحْكَمُ أمر الناس ما اجتمعا
ألا تخافون قوماً لا أبَا لكم
أمسوا إليكم كأمثال الدَّبا سُرُعا
ثم يستطرد لقيط محذراً قومه:
في كل يوم يسُنُّون الحِرَاب لكم
لا يهجعون إذا ما غافل هجعا
لا الحرث يشغلهم، بل لا يرون لهم
من دون بيضتكم ريّاً ولا شبعا
إلى أن يقول:
يا قوم.. لا تأمنوا إن كنتم غُيَّراً
على نسائكم كِسْرى وما جمعا
هو الجَلاءُ الذي يجتثُّ أصلكم
فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا؟
ثم يختم لقيط قصيدته العصماء تلك، كأنه يريد أن يقول: اللَّهم إني قد بلغت، فاشهد:
لقد بذلت لكم نُصْحِي بلا دَخَل
فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا
هذا كتابي إليكم والنذير لكم
لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا
وكلنا يذكر أحداث عام 1377هـ (1957م) عندما وقّع شاه إيران محمد رضا بهلوي اتفاقاً مع الإدارة الأمريكية من أجل تنفيذ برنامج نووي في إيران، مع أن خلافاته معنا لم تشهد أي بعد طائفي، والعجيب الغريب أن الخميني عندما جاء، ألغى تلك الاتفاقية، ثم ما لبث أن اتجه في العام التالي 1401هـ (1980م) إلى ألمانيا لإصلاح منشأة بوشهر النووية.. وهكذا تواصل المسلسل بين إيران والغرب، وتراوح بين مد وجزر إلى العام الماضي (1436هـ- 2015م) حيث أعلن عن التوصل إلى اتفاق تتخلى إيران بموجبه عن أطماعها النووية مقابل رفع العقوبات عنها، لكي تتسنى لها العودة إلى التعامل الطبيعي مع المجتمع الدولي.
وقد أكد كل المراقبين المحايدين والمحللين السياسيين المنصفين، أن الاتفاق النووي بين إيران والغرب يصب في مصلحة الأولى، فعلى المدى القريب، ضمن لحكومة إيران العودة إلى المجتمع الدولي، أما على المدى البعيد، فيعمل على تحسين اقتصادها، فيخدم بالتالي البلاد كلها، طبعاً هذا إن أحسن المسؤولون هناك توظيف الموارد، ولم يهدروها في مؤامرات شيطانية كما فعلوا على الدوام لزعزعة الأمن والاستقرار في العالم، كما يكشف الاتفاق أيضاً سر هذه العلاقة الملتبسة بين الغرب وإيران، وإلا لماذا سكت الغرب كل هذه السنوات عما تمارسه إيران من انتهاك لحقوق الإنسان ضد أقلياتها من عرب وسنّة وأكراد وبلوش وأذريين وغيرهم، إضافة إلى احتلالها لإقليم الأحواز العربي منذ عام 1344هـ (1925م) وممارسة أبشع أنواع الظلم ضد سكانه وحرمانهم من أبسط الحقوق، واحتلال الجزر الإماراتية الثلاث منذ عام 1391هـ (1971م) قبل يومين فقط من إعلان قيام اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة حتى اليوم، مع أن كل الوثائق التاريخية تثبت حق دولة الإمارات الشقيقة في تلك الجزر منذ مائة وعشرين عاماً تقريباً، بل ذهبت إيران أبعد من هذا، وكشفت عن تطوير برنامجها للصواريخ البالستية تحت الأرض، قبل أن يجف الحبر الذي كتب به اتفاقها النووي مع الغرب، في تحدٍ صارخ للعالم بأسره.
قالها الفهد وحققها سلمان
في حديثه لضباط معهد الدراسات الفنية بالظهران وطلابه، أكد الفهد يوم كان ولياً للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء، قبل أربعين عاماً: (سيأتي اليوم الذي تعتمد فيه الأمة العربية على جيشنا.. لا نريد أن نخلق مشكلة لأحد، لكننا لن نسمح لأحد بالاعتداء على وطننا). فاليوم إذ تقود قواتنا العسكرية بتشكيلاتها كافة، القوية بالله سبحانه وتعالى، ثم بجهد قادتنا الأوفياء المخلصين، من المؤسس فسعود والفيصل وخالد والفهد وعبدالله وسلطان ونايف، ثم سلمان الذي يحمل اللواء الآن، تقود بعون الله، ثم بحزم سلمان وعزمه، هذا التحالف العربي، الذي شكله سلمان في لمح البصر، للوقوف إلى جانب إخوتنا في اليمن ودعم حكومتهم الشرعية لدحر التمرد والعدوان، مما يؤكد ثقة أولئك الزعماء في قيادة سلمان؛ ولعمري هي ثقة في موضعها، بل أدهشهم سلمان بحزم قيادته وحنكته ومضاء عزيمته، واليوم أعاد التحالف بقيادة السعودية، الحكومة الشرعية إلى عدن، ويواصل عملياته بخطى حثيثة، فاستعاد نحو 80 في المائة من الأراضي اليمنية من سيطرة الانقلابيين، وأنا أكتب مقالي هذا، تتناقل وسائل الإعلام خبر تحقيق الجيش اليمني مدعوماً بقوات التحالف الذي تقوده السعودية، إنجازات إستراتيجية مهمة في ساحة المعارك، تمثلت في السيطرة على ميناء ميدي وقلعتها الأثرية بمديرية حجة، وتكمن أهميته الإستراتيجية فيما يشكله من شريان حيوي لتزويد الانقلابيين الحوثيين والمخلوع صالح بالأسلحة عبر المنطقة المحيطة التي تتميز بتضاريس جبلية معقدة، إضافة إلى استعادة الجيش مناطق أخرى مجاورة، ومناطق مماثلة بين تعز ولحج، حسب تصريح العميد سمير الحاج المتحدث الرسمي باسم الجيش اليمني، مما جعل إيران تبتلع تباهيها بالسيطرة على العواصم العربية بحسرة، أؤكد أنها ستظل غصة في حلقها إلى الأبد. إذ لن تسمح لها السعودية بالتمادي في غيها. بالطبع، هذا فضلاً عن تشكيل السعودية تحالفاً عسكرياً إسلامياً من أربع وثلاثين دولة، لمحاربة التطرف والإرهاب حيثما كان.
العدالة الناجزة
يقول والدنا المكرم، سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله ورعاه: (هناك ثلاثة أمور أساسية، كان الملك عبدالعزيز لا يقبل فيها جدالاً إطلاقاً، ولا يقبل فيها أي خلل، أولها العقيدة ودفاعه عنها وتمسكه بها وعدم المساس بها. والثاني الأمن، أمن الدولة، ولا يمكن بحال من الأحوال تطبيق الشريعة ما لم يكن هناك أمن في الدولة. والأمن ليس بالبطش أو بالرعب، بل بالعدل وتحكيم كتاب الله وسنّة رسوله عليه الصلاة والسلام. والثالث الحفاظ على حقوق الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم).
فمنذ بزوغ فجرها الأول في عهد الإمام محمد بن سعود، تأسست هذه الدولة على هدى كتاب الله العزيز الحميد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وسنّة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا سيبقى شعارها إلى الأبد -إن شاء الله- في ترسيخ العدل وإحقاق الحق ورفع الظلم، قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) سورة المائدة. وردّه -صلى الله عليه وسلم- على أسامة بن زيد عندما جاء يشفع في شأن المرأة المخزومية التي سرقت: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام -صلى الله عليه وسلم-، فخطب: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها). وهكذا، فالمواطنون كلهم سواء أمام شرع الله، لا فرق بين هذا وذاك. وهو قول صدقه العمل طيلة مسيرة هذه الدولة المباركة، وأجزم أنه سر بقائها وقوتها، إلى جانب ما توليه من رعاية واهتمام لأداء رسالتها في خدمة الحرمين الشريفين ورعاية شؤون ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين وزائرين، وثمة نماذج عديدة تجل عن الوصف على تأكيد هذا المبدأ، بداية من المؤسس نفسه الملك، عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، الذي تجل مواقف عدله عن الحصر وتفوق الوصف، فطالما وقف أمام القضاة، وهو من هو في هيبته، جنباً إلى جنب مع خصومه، فيخاطبه القاضي كما يخاطب الخصم: يا عبدالعزيز. ويقضي بينهما بالشرع الذي قد يكون لصالح الخصم أحياناً؛ فيخر عبدالعزيز ساجداً لله، شاكراً لأنعمه أن جعل في شعبه قضاة يقيمون شرع الله حتى لو كان ضد الملك نفسه. ويكفي هنا أن أذكِّر الجميع بمقولته الخالدة: (على كل فرد من رعيتنا يحس أن ظلماً وقع عليه، أن يتقدم إلينا بالشكوى.. وعلى كل من يتقدم بالشكوى أن يبعث بها بطريق البرق، أو البريد المجاني.. على نفقتنا. وعلى كل موظف بالبريد أو البرق أن يتقبل الشكاوى من رعيتنا ولو كانت موجهة ضد أولادي، وأحفادي.. وأهل بيتي. وليعلم كل موظف يحاول أن يثني أحد أفراد الرعية عن تقديم شكواه، مهما كانت قيمتها، أو حاول التأثير عليه، ليخفف لهجتها، أننا سنوقع عليه العقاب الشديد. لا أريد في حياتأن أسمع عن مظلوم، ولا أريد أن يحمّلني الله وزر ظلم أحد، أو عدم نجدة مظلوم، أو استخلاص حق مهضوم.. ألا قد بلغت، اللّهم فاشهد). وفي تاريخه أكثر من حكاية تؤكد انتصاره حتى لأطفال مواطنيه من أطفاله. بل إن عدل عبدالعزيز تجاوز الإنسان إلى الحيوان كما جاء في رده على أمين الريحاني: (العدل عندنا يبدأ بالإبل، فمن لا ينصف بعيره، لا ينصف الناس، يا حضرة الأستاذ)، امتثالاً لأمره -صلى الله عليه وسلم- في الرفق بالحيوان، فقد كان يوصي جيشه في المعارك: (... لا تقتلوا صبياً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً ولا راهباً ولا تقطعوا مثمراً ولا تخربوا عامراً ولا تذبحوا بعيراً ولا بقرة إلا لمأكل ولا تغرقوا نخلاً ولا تحرقوه). فلم يكن عبدالعزيز يعرف في سبيل العدل كبيراً أو غنياً، كما أكد الريحاني الذي عاصره، فكل الأعمال الأثيمة عنده سواء، وكل الرؤوس سواء عند السيَّاف.
وقد ذكرت لكم في مقال سابق، حكايات مدهشة عن حرص قادتنا على تطبيق العدل والامتثال للشرع الحنيف الذي هو دستور هذه البلاد، إذ حكم القضاة في أكثر من قضية ضد الملك فهد وضد الملك عبدالله، فلم يعترض أي منهما، بل لم تكن الفرحة تسعهما من حرص القضاة على تحكيم الشرع، بصرف النظر عن مكانة المتخاصمين. وهو أمر ما زال قائدنا سلمان اليوم يؤكده في كل مناسبة: (هنا، يستطيع أي مواطن أن يرفع دعوى حتى ضد الملك أو ولي عهده أو أي أحد من أفراد الأسرة، فالقلب مفتوح والأذن مفتوحة والهاتف مفتوح والمجالس مفتوحة، وأهلاً وسهلاً بكل من لديه مظلمة أو حاجة أو مشورة).