عمر إبراهيم الرشيد
قرأت مؤخرًا عن تجربة رومانية للإصلاح وتقويم السلوك للمساجين، إِذ إن هناك لائحة معتمدة منذ العام 1969م وهي أن كل من يؤلف كتابًا ذا قيمة علمية يلغى مقابله ثلاثين يومًا من مدة السجن لمن يؤلفه. هذا القانون رائع من حيث التشجيع على صقل الفكر وزيادة المخزون المعرفي والقراءة ومن ثم الكتابة والتأليف، وخصوصًا أن السجين لن يعدم الوقت والفراغ الكافي للقراءة والاطلاع وتثقيف الذات، والمؤلفات التي
كتبت في السجون في فترات وأماكن متفرقة من هذا العالم خير دليل. وبالطبع يجدر بنا التذكير بأن رومانيا التي كانت تدور في فلك المعسكر السوفيتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى سقوط حكم تشاوشيسكو مطلع تسعينيات القرن الفائت لم تتوافر على بيئة صحية ثقافيًا واجتماعيًا حتى يؤتي مثل ذلك القانون ثماره، بالرغم من أنه حضاري حقيقة لتأثيره المتوخى في نشر المعرفة والثقافة وزيادة الوعي العلمي، إلا أنه كما قلت فإن طبيعة المجتمعات الاشتراكية العسكرية النفس تعيق تحقيق المكاسب الإنسانية على تنوعها، باعتبار إهمالها لحاجة الإنسان للتطور والإنجاز والتغيير الايجابي. هناك تحرك برلماني حكومي في رومانيا لإعادة النظر في هذا القانون، بعد ارتفاع عدد الكتب التي تؤلف وتكتب بواسطة سجناء، إِذ كانت لا تتجاوز الثلاثة كتب في العام 2011 فارتفعت إلى 340 عام 2015 كما نشرت ذلك الزميلة (الشرق الأوسط). ويبدو أن الحكومة الرومانية رأت في هذا الارتفاع المفاجئ أن الكم غلب الكيف وأن ذلك يفقد ذلك التنظيم فائدته المتوخاة، إِذ يفترض في الكتاب المؤلف أن يكون ذا قيمة علمية، كما أن السلطات هناك وجهت أنظارها إلى دور النشر وأساتذة الجامعات لتتعاون معها في هذه الحملة، ولعلها امتداد لحملة الحكومة الرومانية لمكافحة الفساد في البلاد التي انطلقت في عام 2013م.
السجن ليس مكانًا للاستجمام أو الراحة كما هو معلوم، إنما في دول معدودة عالميا، تلك التي جعلت من سجونها واحات إصلاح وترويض بل وعلاج سلوكي وإعادة هندسة نفسية، مثل دول السويد والدنمرك والنرويج وألمانيا وإمارة دبي، بما وفرته في سجونها من مرافق عالية الجودة وبرامج تأهيل ووسائل ترفيه.
ويجدر هنا التنويه بما تشهده الإصلاحيات في المملكة من تطوير في الأنظمة والمرافق وبرامج التأهيل والتدريب للموقوفين التي ربما تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد لتظهر نتائجها وآثارها الإيجابية، أما مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة فقد أصبح تجربة سعودية تنشدها دول عالمية عديدة من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا بالنظر إلى نجاحها المشهود وهو ما كون مثالاً كذلك لباقي السجون والإصلاحيات في المملكة قبل غيرها لتقليد برامج وأسلوب المركز.
ممن ألف وكتب في السجن مؤلفات ماتزال إلى يومنا هذا بتأثيرها وقيمتها الفكرية والعلمية والثقافية الإمام ابن تيمية وأحمد بن حنبل -رحمهم الله-.
كما غير السجن مسار فيودور دوستويفسكي الروائي الروسي العالمي حين لم يجد أمامه إلا القراءة ومن ثم الكتابة فأبدع رواياته العالمية مثل الجريمة والعقاب وراية المقامر والفقراء وغيرها. وسطر المناضل والرئيس الإفريقي نيلسون مانديلا سيرته الذاتية في سجنه الذي امتد ثمانية وعشرين عامًا، ذلك السجن العنصري الذي كان كالنار التي تصفي الذهب من شوائبه فخرج ليتسلم رئاسة بلده ويفتح صفحة عفو وسلم أهلي أثار إعجاب واحترام العالم أجمع. السجن مكان غير مرغوب، لكنه صرح إصلاحي لإعادة النفس إلى سويتها إذا أحسنت إدارته، ويمكن أن يكون مكانًا تنطلق فيه النفس من سجن ضلالها، وتقدح شرارة الفكر والثقافة والإبداع المعرفي في أحد عنابره مع كتاب ثري يسافر معه السجين إلى العالم الخارجي، فتتهذب نفسه ويسمو ذوقه ويصقل فكره.. طابت أوقاتكم.