د. خيرية السقاف
مخزون الذاكرة خليط مما تراكم وأبقى في الأثر، وفي التأثير ما كان من قصص الأمهات في الليالي المقمرة، وهن يجلسن « تحت ضوئه» يشعلن المواقد، يعددن أكواب الحليب بالهال، والشاي بالنعنع، وأرغفة القمح للتو قد تحمَّرت على أطراف الجمر، ويتفقَّـدن صغارهن كي لا يغيبوا في الحلكة البعيدة حين تكون أجمل الليالي «للتمشية» العائلية، والقمر بدرا، وتحديدا حين توافق تلك الليالي إجازة، أو صيفا يتجهون فيه لبساتين الهدا، وأودية الطائف المأهولة بلمعة مياه الغدير تحتوي تشاغب القمر، والشجر يحتوي النازلين يظلهم حتى بسكونه في العتمة الحنون، فيما يشيع الورد شذاه ترحيبا واستئناسا بالزائرين حياضه، وقطف السفرجل يتماهى مع شغب الصغار، وتلك الحجارة الضخمة الصغيرة كالجبال المتناثرة على امتداد الرؤية يحلو للصغار الركض إليها، والصعود، والنزول كأنهم فراشات تطير، وتحط على فرح..!
فلا يجدن للمِّ الراكضين حولهن غير القصص تأخذ بلب الصغار، تشغل مخيلاتهم، تستدر انتباههم، ومن ثم تمكنهن من السيطرة على وقدة أقدامهم..
حكايا الأمهات، وقصص الغول، والدجيرة ذات القدم الواحدة، والعجوز والثعلب، وسيف بن ذي يزن، والرحالة يطلبون العلم، والأذكياء المحتالون للنوال، وابن المقفع وكليلته ودمنته، ووووو..
الصغار الساهرون جوار المواقد، يرشفون الحليب بالهال، آذانهم صاغية لقص الأمهات، و يالها من أحلام ماتعة بعد أن ينفض بهم الجلوس، ويأووا للمراقد،.. أو كوابيس تأخذهم بسرعة لأحضان أمهاتهم..
هذا المخزون يحرك الشجن كلما مرت بأسماعهم عبارات، أو كلمات كانت في مضمون ما تركته الأمهات في المخزون لمدن ذاعت شهرتها بثرائها العلمي، والأدبي، ..أو بشخوصها المؤثرين في تأريخها، حتى إذا ما كبر الصغار كانت أول التساؤلات التي تشغلهم هي: كيف لأولئك الأمهات اللاتي تعلمن في « الكتاتيب أن يحطن بهذا الثراء المعرفي وهذه الحكايات الثرة!
فإذا ما تباعدت الأزمان وحلت النكبات جُعلت بغداد رمحا في الصدر تخزه كلما سقط اسمها في السمع، تطفر ليلى المريضة في العراق، ويخضر الفرات المسود بالحبر، تقبل قوافل الرحل الآيبون لدجلة، ومناظرات الفقهاء، تحضر دمشق كلما هزتها الصواريخ وأحرقتها البراميل، بغوطتها وفسيفساء مآثرها، بجلقها، وسينيتها تهسهس في القلب، بذلك العمار في اليمن السعيد وهدهد سليمان ومأرب الندية بالماء والحكايات،
العراق، اليمن، الشام، قوافل الصيف وشتاء الرحل، قصص الإنسان، والحيوان، المخيلات العامرة بالرؤى، والأحلام، بالفخر، والمراثي، بالمديح، والحب، بالصراعات الصغيرة، حتى مع الدواب والماشية والجن، والملائكة، والشياطين، والأنواء، بالفروسية، ومكارم الأخلاق، بالشعر، والحكم، والمقاصد الموحية، بكل الأسماء الفاعلة في كتاب الزمن الأخضر..
ماذا أبقت لنا الأحداث من مخزون هذه الذاكرة ليكون وهَّاجا كما كان لامعا، وقد أطفأت بشراستها ذلك الوهج، إلا هذا الشجن الزاحف بقوة من عمق الذاكرة لسطوح الأفئدة كلما ترددت الكلمات لأسماء بغداد، الموصل، نينوى،النجف، كربلاء،سامراء، دمشق، حلب، حمص، اللاذقية، الرقة، صنعاء، تعز، عدن، مأرب، و..و..
وماذا ستحكي الأمهات لصغارهن عن الشر الذي عمر النفوس، والفناء، والدمار..
الذي أشرع للشتات، والنفي، والغربة......؟
مرضت تربة الخيال،
طال الشوك في الغصون..؟!
والمتفائلون كثر،..!!
لكن الوقت قصير بهم كي تتحقق تفاؤلاتهم..
قبل أن تأتي أجيال، وأخرى لتستعيد الأرض هناك صحتها،
والناس فوقها..!
ستعيد الذاكرة مخزونها، لكنه ركامٌ بشع لحقبة وخيمة..!!