د. محمد البشر
طليطلة كانت عاصمة القوط قبل دخول المسلمين إليها، وفي حقيقة الأمر، فإنّ الأندلس جميعها لم تهنأ بالاستقرار الدائم بعد الشقاق بين طارق بن زياد، وموسى بن نصير، بل ويمكن القول بعد غيرة موسى من طارق، وإرساله إلى الوليد بن عبد الملك ومصادرة أمواله وسجنه، وكذلك بعد أن حاك طارق لموسى، وذاق ما ذاق طارق لكن هذه المرة على يد سليمان بن عبد الملك، وبعد هذه الفترة وتولي عبد العزيز بن موسى أمور الأندلس بعد مغادرة والده مرغماً، لم يعد للأندلس استقرار، حيث قتل عبد العزيز لأنّ المسلمين هناك قد عابوا عليه هيامه بأرملة قائد القوط، وتأثيرها الكبير عليه، وكانت مدينة طليطلة في تلك الفترة الصعبة من التاريخ الإسلامي في الأندلس، بؤرة للثورات المتواصلة حتى أنهم ينعتونها بالمدينة الملعونة لكثرة شغبها.
بعد دخول عبد الرحمن الداخل، وفرض سيطرته على الأندلس، ونشر الاستقرار تغير وضع طليطلة تماماً، فقد حصّنها هذا الفتى الرائع، وأصبحت رباطاً تنطلق منه الحملات الإسلامية للفتوحات، وإخضاع الثغور المشاغبة، واستمر حالها كذلك خلال الحكم الأموي بعد نهاية حكم الأمويين، وتوزيع مملكتهم إلى دويلات صغيرة، كانت طليطلة من نصيب بني ذي النون، ووصلت أوجها في عصر حاكمها المأمون، حيث كانت إشعاعاً للعلم والفن المعماري، التشييد والإبداع سواء في المجال الزراعي أو الحرفي.
بعد سقوط طليطلة المدوي الذي آلم المسلمين، والذي قال أحد الشعراء في ذلك السقوط:
الثوب ينسل من إطرافه وأرى
ثوب الجزيرة منسل من الوسط
يا أهل أندلس حنوا مطيتكم
كيف الحياة مع الحيّات في سقط
لم لا، وهي التي كانت تزخر بالقصور، مثل قصر السرور، وروائع البساتين والحدائق الغنّاء، لكنها قد خلت من معظم سكانها المسلمين بعد سقوطها، ومع ذلك فقد بقي فيها عدد من المسلمين الذين آثروا البقاء في مدينة الآباء والأجداد، وأطلق عليهم «المدجنون».
والحقيقة أنّ الظروف السياسية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة الأيبيريه، وخوف النصارى من سطوة المسلمين، أتاحت للمدجنين في طليطلة فرصة رائعة، فقد ألغى النصارى عن المدجنين ما كان يفرض عليهم من أموال أو منتجات عينية، وكان النصارى يستفيدون منهم في التشييد والتعليم والزراعة، وسائر الحرف والفنون ذات الطابع الراقي، حيث كان المسلمون آنذاك هم حملة العلم والفن، في الوقت الذي لم تكن أوروبا على درجة من ذلك.
لقد قدّر أحد المؤلفين الأسبان عدد المدجنين في طليطلة في نهاية القرن الحادي عشر نحواً من اثنين وعشرين إلفاً، ويمتدحها بأنها كانت تجمع النصارى والمسلمين واليهود، بعقائدهم وفنونهم، وكان كل مجموعة تضيف من علومها ما جعلها ذات حضارة مميزة، ولهذا فقد تميزه بفن خاص بها، يسمّى الفن الطليطلي، ورغم دخول المرابطين إليها، وهم المعروفون بتمسكهم الشديد بالدين الإسلامي، قد أبقوا على هذه المدينة كما هي تحمل تنوعاً رائعاً، لذا لم يغادرها النصارى، بل كانوا يعيشون في رخاء وأمان في ظل الحكم الإسلامي المتسامح.
عندما دخل الفونسو السادس طليطلة أغدق الأموال على المدجنين المسلمين ليبنوا له القصور والمتاحف، وهو المتشرب بالفن الإسلامي الراقي، وقد أشار عليه ريموندو أحد مستشاريه بأن يبني مركزاً لترجمة الكتب العربية، ليستفيد الأسبان من علوم العرب الغزيرة، وكان من حسن حظ هذه المدينة أنّ المدجنين قد طال بقاؤهم في طليطلة حيث استمرالمدجنون بها يشاركون بفنهم وعلمهم قرابة أربعة قرون، حيث سقطت غرناطة، وبدأ النسيج الاجتماعي يتفكك بسبب تعصب الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، وبقيت طليطلة تنعم بفنها الذي صنعه المدجنون، عبر القرون، حيث نقلوا كل الفنون من عصر خلفاء بني أمية إلى عهد الطوائف، ومن بعدهم المرابطون.
لقد خلّد هؤلاء المدجنون تراثهم من خلال الفن، ونقل العلوم الذي ظهرت آثارها في أوروبا، حيث ينعم الأوروبيون بما سطّره المسلمون في تلك البلاد البعيدة عن منبع إشعاعهم، هكذا كانت طليطة، جميلة بفضل هؤلاء المدجنين المسلمين.