د.موسى بن عيسى العويس
* كثيراً ما نقرأ في كتب الثقافة والتاريخ اندثار ثقافات وحضارات ولغات وتعاقب دول وممالك يحتفظ التاريخ بها، وننبشها للعبرة، أو لترسيخ انتماء ما، وقد لا يعي أو يعرف ذلك إلا من جدت عنده عزيمة البحث والاستقصاء وحب المعرفة والاطلاع، ولكل ثقافة، وحضارة، ودولة قصة بداية ونهاية، فيها ما يسر، وفيها ما هو خلاف ذلك، وأكثر العثرات في مسيرات الأمم تأتي من تجاهل التاريخ والاستفادة من فرصه الثمينة.
* ليس هذا موضوعي بطبيعة الحال في هذه الوقفة، بل الموضوع أعمق، إِذْ إننا في هذه الأيَّام نعيش مع دول العالم العربي والإسلامي اضطراباً سياسياً ومستقبلاً مجهولاً ربما لم يكن له نظير خلال العقود الستة الماضية. واقع لا نعرف عواقبه، ولا نعرف من يقف حقيقة وراء أحداثه السريعة المفزعة. واقع اختلطت علينا فيه الكثير من المفاهيم والتبست. فالعدو في السابق نعتبره من يختلف معنا في العقيدة، أو من اعتدى واحتل قطرا من الأقطار، سواء كان في الأقطار العربية أو الإسلامية، والمجتمع في هذا يسير خلف تيارين، تيار السياسة، وتيار الدين. وقد يتنازعون في تحديد ذلك.
* على مدى خمسين عاما تقريبا أو يزيد كانت (إسرائيل) هي العدو اللدود في الدرجة الأولى، وكانت القضية (الفلسطينية) هي الملهبة للصراع، أو الاستعداء إن صح التعبير. كانت هي القضية الأم، والأساس، والمفصلية في علاقات الدول العربية بغيرها، وبشكل تدريجي بدأ التنازل بالاعتراف من بعض الدول، أو بعقد المعاهدات العلنية أو السرية، وبدأ يتلاشى وهج القضية، ووهج الاستعداء، والتأجيج العاطفي الذي كنا نعيشه.
* في الواقع أجزم أن القضية الفلسطينية ذابت إلا في وجدان الشعب الفلسطيني الذي يرزح تحت وطأة الاحتلال أولا، وفي هاجس حكومة المملكة العربية السعودية قلب العالم الإسلامي، وحاضن قضاياه ثانيا، ومع ذلك فأعتقد أن الظروف الحالية أملت على الشعب الفلسطيني المثخنة جراحه فآثر السلام والاستسلام.
* اليوم لم تكن (إسرائيل) وحدها، بل كشفت الأحداث العميل المستتر، ولم يتورع ذلك العدو من إعلان الحروب ضد المسلمين، وضد من يختلف معهم سياسياً.
* الآن، ونخن نخوض صراعا إقليميا ودوليا لا يعرف منتهاه فإنه من أكبر الأخطاء التي نرتكبها في مثل تلك الظروف أن نعمل على تحييد روابط الدين، واللغة، والعرق، والتاريخ، والثقافة، وجغرافية المكان. الآن، جزء من المكون الاجتماعي في (العراق) نعدهم أعداء، وهم كذلك، وجزء من المكون الاجتماعي في (اليمن) نعدهم أعداء وهم كذلك، وجزء من المكون الاجتماعي في (سوريا) نعدهم أعداء، وهم كذلك، فضلا عن (إيران) ومن سار في فلكها من الدول والأحزاب. وأخطر من هذا وذاك حينما يخلق عدو آخر بين أظهرنا، ومن داخل نسيجنا.
* ومن المؤكد أن ما ينطبق علينا ينطبق على غيرنا من شعوب ودول العالم، والسبب في ذلك أن الأيدلوجيات تسير بكل تأكيد وتتفق مع التوجهات السياسية، وربما العكس هو الصحيح في بعض الدول.
* وإذا كان الإِنسان العاقل والراشد والمثقف يقع في حيرة من أمره، وهو يقيم المواقف، فما بالك بالأجيال الناشئة الجديدة! كيف سيكون حالها وتصورها وإدراكها وقدرتها على التعايش والاندماج في هذا العالم المشوش؟.