د. حسن بن فهد الهويمل
كُلُّ ما هي عليه [المملكة العربية السعودية] من قوة: حسيةٍ، ومعنويةٍ، وثباتٍ على المبادئ، والقيم. وكل ما ينعم به الموَاطن من رخاءٍ، واستقرارٍ، وأمنٍ، وإيمانٍ، وتماسكٍ في الجبهة الداخلية، والتفاف حول السلطة.
وكل ما هي عليه من رسوخ قدم في المفازات السياسية، و[دبلوماسية] مَرِنَةٍ متوازنة، ووسطية في كل الممارسات، وعلاقات متينة مع عِلية القوم في المعتركات السياسية العالمية.
كل هذا، ومثله معه، لا يستطيع أن يبدد ركام الخوف من واقع أمتنا. ولا يقدر على طرد شبح اللعب السياسية المخيف، وتمادي اللاعبين في تقليب أفئدتنا على السَّفود. فأمتنا المغلوبة على عقلها، وعلى أمرها، وعلى كل أشيائها، بحاجة إلى إعادة النظر في شأنها كله.
ففي كل رَجْفَةٍ نقول: تلك هي القاضية. وفي كل مؤتمر نقول: هذا هو بداية النهاية. ولكن الرادفة التابعة، تحملنا على تمني ما سلف من نوازل. على حد:-
[رُبَّ يومٍ بَكَيْتُ مِنْهُ فلمَّا
صِرْتُ في غَيْرِه بَكَيْتُ عَلَيْهِ]
وكل مؤتمر صاخب الجدل، متشعب الآراء، متعثر الخطوات، يَدُعُّنا في أتون الفتن دَعَّا. ولسان حال اللاعبين الكبار يردد:- ليس لكم من الأمر شيء. وحال أمتنا يجسدها قول الشاعر:-
[ويُقْضَى الأَمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيمُ
ولا يُسْتَأمَرُونَ وَهُمْ شُهُودُ]
لقد تعاقبت السنون العجاف، على أمة كادت تفقد أهلية الوجود الكريم. وهي بانتظار السُّنْبِلات الخضر التي لم تأت بعد، وأظنها لن تأتي في ظل ما هي عليه من أخَرٍ يابسات.
فكم من تنازلات تُعطى لمن لا يستحق، وكم من نوايا حسنة تبذل لمن لا يستأهل، ولكن المستبدين الغاشمين، {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} بحيث لا يرون، ولا يسمعون.
وطغامنا جادون في تنفيذ [الأجندة] على الجماجم، والأشلاء، ووسط حمامات الدماء. وسيظلون هكذا، مُسْتكينين أمام العدو، متنمرين على الضعفاء، والعزل من أبناء جلدتهم. وستظل الأمة مغلوبة على أمرها، حتى تبادر أشياءَها بنفسها. وحتى تشب عن الطوق.
وستظل طوائِفُنا تقتتل فيما بينها، مُعيدة بفعلها الهمجي إلى الأذهان تاريخ [أوروبا] التي احتربت، ثم تَنَبَّهت، وكتبت وثيقة السلام، والمصالحة بمداد من الدم. ونحن بعد لم نستبن الخدعة الكبرى، ولم نضع السلاح، لنعيد النظر فيما نحن عليه من غباء معتق، وجهل مستحكم، ووحشية مخيفة.
إن على الممسكين بأزمَّة الأمور، والقادرين على العقاب، والعتاب، والعفو، والثواب أن يلتمسوا أخلاقيات الإسلام، وخطواته، المتمثلة بفقرات ثلاث من الذكر الحكيم:
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، وتلك أقوى المواقف، فامتلاك النفس عند الغضب هي من القوة المحمودة. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، وذلك تفضل، لا يؤتاه إلا من غَلَّبَ العفو على العقوبة عند الاقتدار.
وذروة الأخلاق تتمثل في الخطوة الثالثة، والأخيرة:- {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، والإحسان ليس في أن تعفو عَمَّن أساء إليك، ولكن أن تكافئهُ مع العفو. هذا هو الإحسان.
فأين نحن من تلك الأخلاقيات الإسلامية المعطلة؟
إن على العالم الإسلامي، والعالم العربي بوصفه جزءاً منه، أن يُحَرِّم الحروب الطائفية، والمذهبية، وأن يأطر الخلافات فيما بين الفرق، والملل، والنحل الإسلامية على الجهاد باللسان، تمسكاً بمبدأ العصمة لمن يشهد ألـ[لا إله إلا الله] و[أن محمداً عبده، ورسوله].
وافتراق الأمة الإسلامية لما يزل في هذا الإطار. والله ندب إلى الجهاد بالقرآن على أصح الأقوال في تفسير قوله تعالى:- {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}.
ولكي نكرس هذه القيم، قيم الكظم، والعفو، والإحسان، والجهاد بالكلمة، ونحول دون الاقتتال بين طوائف الإسلام فإن على الفرق الإسلامية تداول الآراء، وتبادل الأفكار، والخروج بمواثيق، وعهود تحرم إشهار السلاح، امتثالاً لتحذير البر الرحيم صلى الله عليه وسلم، بقوله:- [لا تعودوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض].
ولأن بعض الدول الإسلامية، والعربية، تواجه إشكاليات المكونات السكانية، والأقليات، وهذه الإشكاليات قد تؤدي إلى التوتر، وتدفع بالأعداء، وأصحاب المصالح إلى استغلال هذه الثغرات، فإن على هذه الدول التخلص من ذلك بإنجاز الدساتير، والمجالس النيابية المُفَعَّلة، التي تمكنها من تفادي صدام الأقليات، وخلق جماعات الضغط.
لقد مرّت [لبنان] بذات التجربة، وكانت الأنموذج الدستوري المتوازن، ولكنها أتيت من حيث لا تحتسب، فتحولت من دولة دستورية، تعتمد المحاصصة، وتتوسل بالإجراءات الانتخابية الشفافة، إلى تكتلات طائفية، ومذهبية، استبدلت البندقية بالمجالس النيابية، لحسم المواقف. فكانت [الكتائب] و[حزب الله] و[المخيمات] اللاعب الأثيم، الذي أسقط الأنموذج [الديمقراطي] في الوطن العربي.
العصور الوسطى في [أوروبا] تشبه إلى حد كبير ما عليه عالمنا العربي. فحرب الثلاثين عاماً التي تفانى فيها [الكاثوليك] و[البروتستانت] أعقبتها صحوة إنسانية، حكمت العقل، واستثمرت الطاقات، وأقامت العدل، ونسيت ما هي عليه من ضغائن، وأحقاد. ولست أدري متى تفيق أمتنا من سكراتها. وتعيد قراءة ما أنزله الله على رسول الرحمة، وتجنح إلى السلام الذي نُدِبت إليه:- {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
لابد لهذا الليل البهيم أن ينجلي، ولابد لفلق الصبح أن يتنفس، ولابد لكافة القوى أن تُستخدم لصالح السلام، والوئام.
الظواهر المرعبة، لم تكن مقتصرة على القتل المتوحش، والتدمير الشامل، وتتابع الانهيارات الأمنية، والاقتصادية، والأخلاقية. على الرغم من أن أدناها كاف للإحباط، والتيئيس.
إن البلاء المستطير تجذر عداوات، وأحقاد، وضغائن غير مبررة، بين المكونات السكانية. وهي أدواء لن تحسم على المدى القريب. فاللاعبون لكي يَفْرُغوا لجمع الغنائم، أنشؤوا من لا شيء، كلَّ شيء. بحيث تركوا فينا حِقداً، وكراهية، وارتياباً، نظن كل الظن ألَّا تلاقيا معه.
وهذه المخلَّفات المخيفة، تضع الأمة المهزومة أمام خيارين، أحلاهما أمر من العلقم:
- التقسيم الطائفي، والعرقي، والإقليمي.
- أو استمرار القتال، حتى تتفانى الأمة، ثم لا تَجِدُ من يدق بينها عطر منشم.
المتابعون لعمليات التصفيات الجسدية، للمسالمين، والضعفة، لا يمكن أن يُسَلِّموا بسهولة، فالوحشية الطائفية، والعرقية، تؤسس لثقافة الكراهية، والقبول بأي مصير.
واللاعبون مُستفيدون من إحدى الرزيتين: التقسيم، أو استمرار الإبادة، والتدمير. وهما قاب قوسين، أو أدنى.
ما نحلم به التوقف حيث كنا، ثم التفكير المتواضع، للخلوص من العُقدِ النفسية، والخوف حتى من الأقربين.
إن شيئاً مهماً يسبق إزالة أثار الحروب، وإعادة الإعمار، يتمثل في إعداد مصحات نفسية، تعالج آثار الفوضى المدمرة: حِساً، ومعنى.
إن من السهولة بمكان إيقاف الحرب، ولكن من الصعوبة بمكان إزالة الآثار النفسية، والنسق الثقافي الذي تشكل في ظل هذه الفوضى المصنوعة على عين اللاعب الأكبر.
لقد استحكمت حلقات الفتن في [سوريا]، واختلطت الأوراق، وأصبحت سوح المعارك مسرحاً لعدد من اللاعبين [روسيا] و[إيران] و[حزب الله] و[داعش] و[النصرة] و[الأكراد] و[النظام] و[تركيا]. وما خفي كان أعظم.
والمؤتمرات المتعاقبة، والممثلون للمنظمات العالمية ما هي إلا عمليات تخدير، وامتصاص مؤقت للاحتقانات، وتمكين مُتَعَمَّد لكافة اللعب من استكمال أدوارها المرسومة لها بعناية فائقة.
ولا أحسب أحداً من المتورطين في مستنقع الفتنة راغباً في حلحلة المشكلة قيد أنملة. فالكبار يديرون الأزمات، ولا يحلونها.
كانت [سوريا] من قبل مشروعَ فتنةٍ عمياء. فـ[البعث] المُنشق على نفسه. و[الطائفية] المتحكمة، المقترفة لجرائم تصفية الخصوم. والاحتقان الشعبي السني المغلوب على أمره، كل ذلك يعد مشروع انفجار دموي، لا يبطِّئ به إلا [دكتاتورية] دموية توسل بها [حافظ الأسد]، وأخطأ في استخدامها ابنه [بشار الأسد].
ولك أن تقول مثل ذلك، أو ما هو أسوأ من ذلك عن [العراق] والعبث [الأمريكي] والحقد[الإيراني] ومحاولات الاستقلال[الكردي]. وثأر [الجيش] المُسَرَّح، ورفض القبائل المُهَمَّشة، وعنجهية حزب [البَعْثُ] المطارد.
وقل مثل ذلك عن [ليبيا] و[اليمن] وسائر الدول التي مر بها طائف [الربيع العربي].
لو سُئلت عن الحل الناجز، لاحترت بين خيارات متوازنة. لعل أيسرها غَمد السلاح، وحقن الدماء، ثم التفكير بطريق العودة إلى المربعات الأولى مربعات ما قبل الربيع. عسى أن تهتدي الأمة إلى طريق قاصد، يعيد لها بعض ما فقدته.
الوعي وحده. وعي الذات، ووعي الآخر، ووعي المقاصد، ربما يكون كفيلاً بإعادة النظر في كل المشاريع الجامحة الخيال.
الوعي المفقود شَكَّل أرضيةً مناسبةً، لتخصيب المشاكل، وهيأ لها أجواءً ملائمة.
ومالم يَعُد الوعي، ولو بنسبة ضئيلة، فإن الأمة ستكون بارعة في القضاءِ على نفسها، وعلى آمال العقلاء والمجربين الوجلين.