د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لو لم يكن أستاذنا الأستاذ الدكتور عبدالله العثيمين أستاذًا في التاريخ لكان أستاذًا في اللغة بجدارة، ليس لأن ناصية اللغة بيده شاعرًا فصيحًا ونبطيًّا بليغًا؛ بل لمعرفته بدقائق اللغة وأساليبها الصحيحة، فكم من مرةٍ كرمني بالمهاتفة ليسألني بما هو به عليم؛ ولكنه يقدِّم للمسألة بقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل- 43)، وكأنه يأخذ بقول العامة: «خلّ بينك وبين النار مطوّع»، فهو على علمه بالصواب يريد شهادةَ محسوبٍ على اللغة، وهذا من حسن ظنِّه وكرم خُلُقه، ولم تتسنَّ لي معرفة أستاذنا عن قُرْب، فالمرات التي تشرفتُ فيها بلقائه زائرًا قسمَ اللغة العربية قليلةٌ جدًّا، ولم تزد على السلام وردِّه، وكذلك اللقاءات في «دارة العرب»، ولكني متابع لكتاباته المستفيضة في صحيفة «الجزيرة».
تجد أستاذَنا في تلك الكتابات ينافح عن اللغة العربية حتى يظن من لا يعلم أنه من المتخصصين بعلومها؛ ولكنه على خلاف كثير من المتخصصين بالعلوم الإنسانية أو التطبيقية الذين يرون أنَّ المدافَعة عن اللغة العربية ليست من شأنهم، ولا يشغلهم أمرها، بل إنهم ربما صرَّحوا بأنَّ رعاية السلامة اللغوية لا تشملهم، وأنه لا تثريب عليهم إنْ هم أخطأوا في كتابتهم أو قراءتهم وحديثهم، محتجِّين بأنهم غير متخصصين باللغة، خلافًا لكل هؤلاء نجد أستاذَنا حفيًّا بالعربية فلا يكتب أو يتكلم أو يقرأ إلا والسلامة اللغوية من أجَلّ مطالبه، وإحساسه العميق منذ فتوته المبكرة بالعروبة أشعلتْ جذوة الغيرة على رموز هويتها التي اللغةُ ذروةُ سنامها.
تجد أستاذنا يتصدَّى لتصحيح ما يقتحم سمعَه أو بصرَه من أخطاء المستعملين، قرأتُ له في مقالٍ عنوانُه «لتلويح اللغة العربية بأردانها جاذبيته (1)» قوله: «يُعبِّر الآن الكُتَّاب -إلا مَن ندر منهم- عن وجود شخصٍ ما في مكان مُعيَّن بقولهم: أثناء «تواجده» في الرياض، وهذا خطأ، والصحيح: أثناء «وجوده» في الرياض؛ ذلك أن كلمة «تواجد» من الوَجْد، لا من الوجود. والتواجد -كما قال الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله- منزلة مُعيَّنة لدى الصوفيين. يقول كثير من الكُتَّاب والمذيعين: «ومن ثُمَّ» بضم الثاء، وهو خطأ، والصحيح: ومن ثَمَّ بفتح الثاء، بمعنى هنا أو هناك». وقال أيضًا: «كثيرًا ما جمع كُتَّابٌ ومذيعون كلمة (مدير) بقولهم (مُدراء)، والصحيح مديرون، فلا يقال: اجتمع مدراء المدارس، مثلاً، بل يقال: اجتمع مديرو المدارس. والأمثلة على الأخطاء كثيرةٌ ومتشعِّبة». ويقول عن اللغة بوصفها هُويَّة المجتمعات: «من الْمُسلَّم به لدى الباحثين في أمور المجتمعات والحضارات الإنسانية أن اللغة من أَهمِّ دعائم هُويَّة الأُمَّة إن لم تكن أَهمَّها. ولذلك حرصت الأمم الآخذة بنواصي التَّقدُّم والرُّقيِّ؛ قديمًا وحديثًا، على المحافظة على كيان لغاتها، والتمسُّك باستعمالها وحدها؛ كتابةً وتحدُّثًا. بل إنها حرصت، أيضًا، على الدفاع عنها وعلى نشرها بين أمم ومجتمعات أخرى». ثم قال: «وإذا كان الاهتمام قد بلغ ذلك المستوى بالنسبة للغات حديثة النشأة والتطوُّر نسبيًّا، فكيف لا يكون الاهتمام أَعظم بالنسبة للُّغة العربية التي لم يَتكدَّر صفو مَعينها منذ خمسة عشر قرنًا؟! إذ ما زال المرء يقرأ ما كُتِب بها أو يَسمَع ما قِيل بها في القرن الأول الهجري؛ شعرًا ونثرًا، فيفهمه حقَّ الفهم. إنها اللغة التي تَمكَّنت، في قرونٍ خلت، من استيعاب حضارات قديمة متعدِّدة، وصهرتها في بوتقة واحدة لتُقدِّم إلى الدنيا حضارة عظيمة في مسيرة تاريخ الإنسانية؛ فكرًا وثقافةً وإبداعًا. بل إنَّ عظمتها لم تقتصر على ذلك -مع أَهمِّيته وجلاله- بل امتدت إلى كونها لغة المصدَرَين الأساسَين لدين أُمَّتنا المسلمة؛ عربًا وغير عرب».
وإن عالِمًا بقامة أستاذنا الدكتور عبدالله العثيمين ليس أستاذًا للتاريخ وحده بل هو أستاذ للغة بما ثقفه منها فأحسن الصدور عنه وبتبين مواطن الزلل فيه وما يرأب الصدع ويسد الثغر.