د. أحمد الفراج
السياسي المحنك هو الذي يستبق الأحداث، أي الذي يقرأ الواقع، ثم يفعل ما يرى أنه صواب، مهما كان ذلك مكلفاً، وهذا ما فعله الرئيس الأمريكي، أبراهام لينكولن، في الحرب الأهلية الأمريكية لتحرير السود، وفعله الرئيس جون كينيدي، في معركته لتعديل الدستور الأمريكي، وإقرار قانون الحقوق المدنية للمساواة بين الجميع، ولعلّ الرئيس باراك أوباما أدركته نفحة من هؤلاء الرؤساء الكبار، وهو يشاهد العنصرية المتصاعدة ضد المسلمين في الولايات المتحدة، خصوصاً بعدما أشعل فتيلها المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، والذي اقترح منع المسلمين من دخول أمريكا، وقد سبقه بذلك المرشح الأسود، بين كارسون، والذي قال إن مبادئ الإسلام ضد القيم الأمريكية، وكذلك ما صرح به الحكام الجمهوريون لأكثر من ثلاثين ولاية أمريكية، والذين أعلنوا أن ولاياتهم لن تقبل اللاجئين السوريين، وكانت العنصرية قد تفاقمت ضد المسلمين بشكل ملحوظ، خلال الفترة الماضية، ورصدت اعتداءات على المساجد، والمحجبات، وبعض طلاب المدارس والجامعات.
لأجل كل هذا، قام الرئيس باراك أوباما بزيارة تاريخية لأحد المساجد الكبيرة، في ولاية ميريلاند، المجاورة لواشنطن العاصمة، وألقى كلمة نقلتها معظم وسائل الإعلام الكبرى، وفي هذه الكلمة الطويلة، والتي بلغت خمساً وأربعين دقيقة، تحدث أوباما عن دور المسلمين في بناء الولايات المتحدة، منذ نشأتها، واستشهد بمقولات من القرآن الكريم، وذكّر الحاضرين بأن الرئيسين الأمريكيين الكبيرين، توماس جيفرسون، وجون آدمز، كانا يحتفظان بنسخ من القرآن، ومازح أوباما الحاضرين بالقول إنني لست الرئيس الوحيد، الذي يتهم بأنه مسلم، فالرئيس التاريخي توماس جيفرسون اتهم بأنه مسلم أيضاً، وغني عن القول أن ثلث الشعب الأمريكي لا زال يعتقد بأن أوباما مسلم متخفٍ، رغم نفيه ذلك مراراً وتكراراً، وقد أكد أوباما على أن القاعدة وداعش لا تمثلان الإسلام، وأن هناك منظمات متطرفة في كل الأديان، كما قال إن الاعتداء على أتباع دين محدد هو عبارة عن اعتداء على أتباع كل الديانات، وحث المسلمين الحاضرين على أن يكونوا جزءاً من الحرب على الإرهاب، وأن لا يسمحوا لأي كان بأن يشوه دينهم، فهم الأقدر على ذلك من أي أحد.
كان أجزل ما قاله الرئيس أوباما في كلمته هو أن هناك من يطلب من المسلمين أن يحددوا هويتهم، أي أن يختاروا بين إسلامهم أو هويتهم الأمريكية، ثم شجب ذلك قائلا: «عليكم أن تفخروا بإسلامكم وبهويتكم الأمريكية، فلا تعارض في ذلك، ومن الممكن أن يكون المواطن أمريكياً مسلماً، ومنتجاً، ومواطناً صالحاً»، ثم حاول تذكير الأمريكيين بالشخصيات الأمريكية المسلمة البارزة، مثل الملاكم محمد علي، ولاعب السلة الشهير، حكيم العجوان، وزميله الأشهر، كريم عبدالجبار، وقد كانت كلمة أوباما قوية، كعادته في التألق عندما يتحدث، وكان المسلمون الحاضرون من كل أنحاء الولايات المتحدة في حالة تفاعل شديد مع أوباما، وقاطعوه بالتصفيق مرات كثيرة، وقد بادلهم المشاعر ذاتها، وربما أنه سيكون هناك تأثير ايجابي غير محدود لهذه الكلمة، نتيجة نقلها من قِبل كل وسائل الأعلام الكبرى، ولكن تظل المشكلة في أنه لم يتبق من فترة أوباما الرئاسية إلا أقل من عام، وقد يأتي بعده رئيس جمهوري محافظ، ويعيدها جذعة كما كانت، فلننتظر، ونتابع ما يخبئه المستقبل للأمريكيين المسلمين.