د.موسى بن عيسى العويس
* في أيامنا هذه يتداول في مواقع التواصل الاجتماعي الملتهبة مشاهد عدة لها أبعاد أمنية واجتماعية خطيرة، وبخاصة ما يتصل بظواهر البذخ والإسراف، أو ما يتصل بالتباهي بالكرم والاحتفاء بالضيف، أو ما نلاحظه من إثارة لبعض النعرات، أو التهاون في الأنظمة، والاستهتار بأرواح الآخرين، فذاك أب يهم بنحر فلذة كبده، إكراماً للضيف، وآخر يشرع في تغيير مسمى ابنه، تقديراً للوجاهة، وآخر يبدو أمام ابنه، مستهترا بالأنظمة، ومسترخصاً أرواح الآخرين، وغير ذلك من المشاهد التي وصلت حد الابتذال والمقت، وبطبيعة الحال فإن ذلك نتيجة قلة وعي، أو فراغ، أو شعور بالنقص، أو الشعور بالعظمة والفوقية.
* على أية حال، وكعادتنا في التفاعل الوقتي أنكرنا ذلك السلوك بشكل جماعي، فكانت ردة الفعل واسعة النطاق على المستوى الشعبي والرسمي، واستفتينا العلماء، وانطلق المختصون في علم النفس والاجتماع والإعلام يحللون هذا السلوك وآثاره الخطيرة على المجتمع، وبخاصة في وقت نحن بأمس الحاجة إلى الوعي والتماسك في جميع مجالات الحياة.
* بطبيعتنا ننسى، أو نتجاهل أن ما سمعناه وشاهدناه ليس بجديد، بل ويعد قليلاً مقارنة بما احتواه موروثنا الثقافي. الجديد في سرعة وصوله، وقوة تأثيره بفعل التقنية الحديثة ووسائلها وإلا فمناهجنا الدراسية في مستويات مختلفة تزخر بمثل هذه الصور، والفن بشكل عام كشف عن مثل ذلك، فهل نسينا تلك القطعة الأدبية للشاعر (الحطيئة)، وهو يصف ذلك الأعرابي البائس الذي دهمه الضيف في دياجير الظلام، فضاق به ذرعاً، فقلة ذات اليد، والفقر المدقع الملازم له أوقعته في حيرة أمام زوجته وأولاده، ترى كيف يعتذر؟ وهل سيقبل الاعتذار؟ الابن في هذا الموقف هو (البطل) حين يقدم نفسه لأبيه، إكراماً للضيف، ودفعاً للحرج الاجتماعي. خذ هذا الحوار من خلال الكلمة، والصورة:
رأى شبحا وسط الظلام فراعه
فلما رأى ضيفا تشمّر واهتما
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى
بحقك لا تحرمه تا لليلة اللحما
فقال ابنه لما رآه بحيرة
أيا أبت اذبحني، ويسر له طعما
فروى قليلا ثم أحجم برهة
وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما
* وبطولات (عنترة) (وطرفة ابن العبد) وغيرهم أكثر مما نستطيع إحصاءه، وخذ:
إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهم غضابا
* وفي هذا السياق نجد التباهي:
فليس على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
* كل هذا التراشق والتفاخر يخيل إليك إنما هو بين طوائف وفصائل تختلف في الثقافة الفكر، واللغة، والجنس، والعرق، وهم في الواقع في مجتمع محصور، وبين أفراد من قبيلة واحدة، لكنه الجهل المطبق الذي أتى الإسلام بقيمه النبيلة ودعا إلى تغييرها ونبذها وإنكارها. وكم من الحروب والصراعات والتناحر والتنافر الذي وقع بسبب بعض مثل تلك المساجلات بين أفراد لم يفكروا في يوم من الأيام بعواقب الأمور.
* إذن موروثنا الأدبي والثقافي بقدر ما يحمل بين طياته من كنوز ثمينة، وقيم سامية نبيلة استنار بها غيرنا من الأمم إلا أننا نجد فيه ما يجرنا إلى الخلف، فهل نعي ذلك، ونستخلص منه أمام الناشئة ما يفيدهم؟ أم سنظل نقدسه ونجله ونعده زاداً ثقافياً، صالحاً لكل زمان ومكان؟