د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
سعدت بشهادة الندوة العلمية التي عقدها قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الملك سعود، وكان عنوانها (بعض الأصول المنهجية لقراءة النص النحوي القديم واستثماره)، قدمها الأستاذ الدكتور محمد صلاح الدين الشريف أستاذ اللسانيات بجامعة منّوبة بتونس، وأدارها أستاذنا الدكتور حسين الواد وذلك في يوم الخميس 25/ 4/ 1437ه، وإنما أدارها حسين الواد لما كان يربطه بالضيف من صداقة وتاريخ مهني استغرق خمسين عامًا. تحدث الدكتور حسين عن تلك العلاقة وأنه لم يفلح خلالها بجذبه إلى ميدان الأدب والنقد كما أن صاحبه لم يفلح بجذبه نحو ميدان النحو واللغة، ونحن نعلم أنهما علمان مبرزان زويت لهما جوانب علوم العربية كلها.
حين تحدث الشريف أشار إلى أن زميله قدم من سيرته جانب العقل ومنجزاته؛ ولكنه ترك جانب القلب وأهوائه، واتخذ من هذا المنطلق مدخلًا لما تحدث فيه مبينًا أهمية الجانب العاطفي المتعلق بمحبة الوطن واللغة، وكان حديثه كله مسوقًا بأسلوب سهل ولغة واضحة وأفكار جلية؛ فهو يكاد في كثير من جنبات هذا الحديث يستنهض شيئًا من معارف السامع حتى ليتوهم أنه قادر على أن يأتي بمثله، ويكتسب حديثه أهميته ليس لعمق التجربة وحدها بل لما يعتمد عليه من معرفة بعلوم العربية القديمة وعلوم اللغة المعاصرة، وقفَنا على أهمية ما أنتجه الإنسان في مرحلة من مراحله التاريخية وما واجهه من أسئلة ومعضلات لم يكن له من الأدوات في زمانه ما يعينه على حلها؛ ولكنه في العصر الحديث امتلك تلك الأدوات فانطلق في أفق التقدم؛ ولكنه ربما يواجه بطريق مسدود فيرجع ببصره كرة أخرى إلى قديمه ليتأمل في أسئلة القدماء المعلقة، وربما أعثرته رجعته على الحل غير بعيد من تلك الأسئلة.
لم يكن حديث الأستاذ خاصًا بالنحو بل شاملًا لطبيعة التفكير الإنساني ولمعارفه وخبراته التي تجعل تجربة الإنسان في تلك العلوم متشابهة، حدثنا عن فيزياء نيوتن ورياضيات أرخميدس وبين لنا أنها كانت ناجعة في وقتها؛ ولكنها عجزت عن حل بعض الأمور حتى جاءت فيزياء اينشتين فقلبت المفاهيم بإدخالها بُعد (الزمن) في معادلة التحليل الفيزيائي، وأعطى برتراند رسل اندياحًا للفكر الرياضي، ولكن هذا المدى الجديد على روعته وفعاليته لم يهمل القديم فما زالت مفاهيم الفيزياء القديمة وهندسة إقليدس مستعملة في حياتنا اليومية لأنها كافية مؤدية لأغراض هذه الحياة، وأما النحو فهو فكر ونظرية تفسر ظاهرة طبيعية هي اللغة، ومقولة الخليل عن علله دليل على الإيمان بأن ليس للاجتهاد حدود وأن مجال التفسير واسع وطريق التجديد متلئب، وبين أن ليس أضرّ على النحو من رجلين؛ رجل أسرف في حبه وعشقه حتى أعماه هذا العشق عن عيوبه وصرفه عن رأب ما يمكن رأبه من صدوع، ورجل أسرف في الازورار عنه، فلم يحسن تلمس مزاياه، وما عرف حسناته، واستبدل به ما ليس خيرًا منه في كل حال، وأما المحسن فهو من اتخذ طريقًا وسطًا في تعلم النحو ومعرفة ما فيه من خير وقوة وتماسك، وعرف إلى ذلك ما في بنيته من ضعف أو اختلال وسعى جهده إلى معالجة ذلك مستفيدًا من جهود غيره ما أمكنه ذلك، وبين أنّ ليست المشكلة في جمود النحو بل في جمود أهله، وأن ليس من سبيل إلى تغيير الحال إلا بالعودة إلى النحو في منابعه الأصيلة وتفهمه بأدوات حديثة. وتحدث عن نظرية العامل التي هاجمها المحدثون في السنة التي بدأ الغربيون يقولون بها أو بشيء من مثلها.
كانت مداخلات الحاضرين وأسئلتهم مجالًا لتوسيع جوانب المسألة، فكان مما أجاب عنه المحاضر سؤال أستاذنا الدكتور رفيق بن حمودة عن أثر ابن مضاء في النظر إلى النحو، إذ كان من جوابه أنه لم يكره عملًا ولا انبعاثًا كعمل ابن مضاء، وأنه كان من أكبر معاول هدم الإيمان بقوة ما لدينا من فكر نحويّ رصين، وجواب عن حقيقة ما ذكر أستاذنا محمد الهدلق وهو ما قيل عن تأثر نعوم تشومسكي بالنحو العربي، وكان من جواب أستاذنا أن الرجل وإن لم يصرح بهذا التأثر فعمله أكبر دليل على التأثر، وأفصح عن أنه في سبيل بيان شيء من هذا متى اكتملت لديه القرائن.
وألح أستاذنا على أهمية أن نبين قيمة ما قدمته حضارتنا للإنسانية من سُهمة تحسب لها في العلوم واللغة وغيرها، وأن نعلم أن كثيرًا مما نشهده في العصر الحديث هو قديمنا أعيد إنتاجه بثوب جديد، ومن أمثلة ذلك آخر ما شاع من أمر التداولية التي هي من مشاغل البلاغة العربية القديمة.
وأحسب أن هذه المحاضرة كانت أبلغ ردّ على من أراد (إحياء النحو) وكأنه كان ميّتًا ينتظر أن يحييه، أو من ذهب إلى (موت النحو) من غير دليل. وهذه الندوة بالجملة من أمتع ما سمعت ومن أكثره نفاسة على ما وصفته من بساطة طرح ووضوح أفكار وعمق معنى.