ياسر حجازي
(1: معادلة المزاوجة بين قانون القوّة وقوّة القانون)
يسعى العالم الحي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انتشار قوّة القانون والدبلوماسية في إدارة العلاقات الدولية المنظّمة، وفي تقرير (حقّ) مصير الشعوب دون الوقوف عند قانون القوّة والغلبة فقط، وهو الحقّ المسؤول عن اكتمال حالة الثقافة إلى أقصى مداها عبر التراكم التاريخي بين الاستبداد والتحرُّر،
بين غلبة القوّة في العلاقات الدولية وبين معادلة المزاوجة النسبية بين (القوّة والقانون)، وهي المرجعيّة الأكثر انتشاراً في عالم اليوم، ولا يمكن اعتبار النزاعات القائمة أنّها القاعدة الأساس واعتبار المرجعية القانونية والدبلوماسية مجرّد استثناء، لطالما الواقع يثبت أن الإنسان بثقافاته المتعدّدة وكياناته السياسية يمضي أكثر نحو (الاتفاق عبر قبول الاختلاف والتّعدّد /ما بعد الثقافة) بسبب حاجته الملحة الوجودية لهـذا التقارب أكثر من مضيّه صوب (الاختلاف عبر الإصرار على الأحادية/الثقافة) بسبب الإشباع الثقافي الذي حقّقه الاستقلال وحق تحرير المصير، وذلك على ضرورة السلام وإن وقع أو يقع تعارضات في أماكن محدّدة من العالم، لكنها لا تمثل الصورة العامة لشعوب ودول العالم.
بينما كان العالم القديم ثمّ الوسيط يمتثلان إلى استبداد غلبة القوّة المسلّحة (منفردة) دون مزامنة أو مزاوجة لقوة القانون حيث لم تولد للقوانين قوّة في العلاقات الدولية حينها نابعة منها وليست مفروضة عليها من غلبة القوّة المسلحة، وبقي القانون منذ إنتاجه قوّة داخليّة تستخدمها السلطات الحاكمة داخلياً لتنظيم علاقات أفرادها ومصالحهم دون مساواة مطلقة، بحيث لا تخضع السلطات الغالبة للقانون عينه الذي تفرضه، ولم يكن ذلك استثناء عن حركة التاريخ، بل جزءاً من مساره وصراعاته الداخلية وتحوّلاتها لأجل استمرار عجلة الدفع الأمامي، الذي تأخذ الإنسان طوراً بعد آخر إلى حتمية قبول التعدّد.
أمّا مرجعية اليوم - وهي نتاج حركة التاريخ: الإنسان ومحيطه- لم تعد تقبل أن يكون قانون القوة الغالبة هو القانون المستبد منفرداً، فليس هناك مساحة مطلقة للقوي ليعتدي على الضعيف، فكلّ هذه الحروب التي نشهدها اليوم انحصاراً وانكماشاً قياسا بحركة التاريخ وأحداثه، وتراجعاً لقانون القوّة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية.
هذا التزامن والتوافق بين قانون القوّة وقوّة القانون مسؤول عن تحقيق حقّ تقرير المصير لمعظم شعوب الأرض، وهو ما رفع عدد الكيانات السياسيّة إلى 195 دولة معترفاً بها في الأمم المتحدّة( 193 عضوية كاملة، ودولتان: فلسطين والفاتيكان عضوية مراقبة) وهذا العدد مؤشّر مهم على تجاوز قانون القوّة المسلّحة واحتلال الشعوب ومحو ثقافاتهم وخصوصياتهم مقارنة بمجموع عدد الدول في القرن التاسع عشر وما قبله، أو بالكاد إمبراطوريات قلّة كانت تحتلّ العالم وشعوبه في التاريخ القديم. وهذا الانتشار الواسع لحقّ تقرير مصير الشعوب ما كان ليحدث إن بقي قانون القوّة المسلّحة هو المسيطر منفرداً، وهذا السبب الرئيس في تحرّر الشعوب وإرادتها في اختيار ثقافاتها وطريقة حياتها الداخلية ضمن مؤثرات دولية؛ فالاعتراف الدولي والاندماج بالعالم والاستفادة منه تُوجب على الشعوب تجاوز العديد من خصوصياتها الثقافيّة لأجل التقارب مع الدول الأخرى، فثمّة شروط إلزاميّة على الدول تطبيقها ومراعاتها في علاقاتها الدولية في سبيل الاعتراف الدولي بها، وهناك شروط اختياريّة خاضعة لتقويم الآراء والضغوطات العالمية عبر الانفتاح والاطلاع والقدرة على التأثير؛ وهذا النضوج الحضاري للمزاوجة بين قوّة القانون وقانون القوّة ليس يعني انتهاء الصراع وصولاً إلى طوباويّة (السلام الكامل)، بل يعني –تحديداً- أنّ الإنسان دخل إلى مرحلة تاريخيّة لم تكن على ذات الانتشار على مرّ التاريخ، مرحلة يلتزم بها قدر الإمكان بمرجعيّة قوانين تحكم علاقاته ومصالحه، على الرغم من استثناءات تحصل عليها الدول القوّيّة، لكنّها تبقى ضريبة لأجل تنازلها عن استخدام قانون القوّة بمفردها وإباحة المجال للقانون الدولي والدبلوماسيّات؛ فهذه الدول على قدر استطاعتها بتحقيق التوازن بين مصالحها في عالم تسوده مرجعية المزاوجة (القانون والقوّة) على قدر ما استمرّت هذه المزاوجة بالتطوّر والتطبيق، وذلك للمحافظة على مسار العالم ضمن حركة التاريخ التصاعدية لمصلحة التعايش: حتمية قبول التعدّد الإنساني وانتهاء عقدة توحيد العالم تحت أحادية ما، مع التأكيد على عدم قدرة الإنسان نهائياً على إنهاء الصراع، فالخلل ليس في وجود الصراع إنّما في حلم الإنسان الطوباوي بانتهائه.
(2: ما بعد الثقافة مرّة أخرى
... Post-Culture )
مقابل كلّ ما سبق، ظهرت حالة (ما بعد الثقافة) دون وعي سياسي عام بظهورها، وفي زعمي الذي قدَّمت كتابي: (مابعد الثقافة) حجّة أوليّة له: أنّ التواصل الإنساني الذي أحدثته (ثورة) شبكات النت وتطبيقات التواصل الإلكتروني في الموبايلات الذكية، وقبلها دبلوماسيات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية في تقارب الشعوب في تحقيق فعلي لحقّ تحرير مصير الشعوب، أظهرت حالة ما بعد الثقافة بعد الإشباع الثقافي الذي تحقّق عبر الاستقلال، وهي الحالة التي عجزت عن تحقيقها إمبراطوريات حكمت بالقوّة وبمنطق أحادي في مساومة شعوب العالم بين الذوبان فيها أو تطهيرها إقصائياً، لقد كان التعايش تحت هكذا ظروف مرهوناً بالتماهي والتوحّد الكلي؛ طمس حضورك لأجل حضور المنتصر القوي، إبادة هويتك لأجل هويته؛ الغلبة هناك تعني: إمّا موت الإنسان مادياً أو موته معنوياً، إمّا فناؤه أو فناء هويته وثقافته.
أقف هنا عند المفارقة الثقافية الكبرى بين (آ) تأكيدي على بلوغ الثقافة أقصاها في وضعها الشمولي كالتعبير عن استقلال شعب واختلافه عن غيره في تصوراته ومعتقداته وإن لم يكن في واقع الحال متميزاً بمفرده بما يظنها خصوصياته وثقافته، وبين (آآ) تأكيدي على نشوء حالة تعايش إنساني سببها الخروج من عنق الزجاجة الثقافية- باتجاه حتمية قبول التعدّد الإنساني؛
المفارقة بلغة أخرى: أن العالم اليوم 195 كياناً سياسيّاً، وينتشر تقارب إنساني (ليس بالضرورة أن نراه وحدوياً، بل نرى اتفاقه في قبول التعدّد والرضوخ له دون موازين القوى) بحيث لا يمحو فيه القوي الضعيف عند حالة اندماجهما في علاقات دولية، ولا يحدث الاندماج تحت شروط أحدهم بما يهدّد فناء الآخر وهويته. هكذا تحرّرت شعوب ما بعد الاستعمار، ثمّ بدأت رحلتها الجديدة حينما اطمأنّت على ثقافاتها وراحت تتقارب مع شعوب العالم في تقارب لا تقدر الثقافة أنت تقوده، فكان لا بد من حالة ما بعد الثقافة التي يعيش بداياتها العالم اليوم، بعد امتلاء الزجاجة الثقافيّة بما لا يسدّ حاجات الإنسان أو يجعله في غنى عن الآخر/المختلف، هنا يكون الوعي بالحاجة أهم من الخصوصية الثقافية؛ فإن كانت شعوب العالم قبل نهاية الاستعمار محرومة وتفتقد لحرية ممارسة ثقافاته، فإنّها اليوم-بعد التحرّر تُمارس خصوصياتها حتّى الشبع، الذي لم يسدّ لها حاجاتها الضرورية، وتكشَّف للعديد منها مخاطر بقائها في عنق الزجاجة الثقافيّة إذا أردت الانتماء لهذا العالم والانتفاع من حضارته ومنجزاته، على شرط خروج شعوب العالم الأخرى من عنق زجاجاتهم الثقافية، وبناء علاقات وتعاملات لا تكون الثقافة فيها عائقا لأي طرف في هذا البناء.