قاسم حول
يراقب الاقتصاديون والسياسيون وأصحاب الرساميل ومؤسسات البورصة تدهور أسعار النفط، ويقال إن نوادي الرياضة في بعض البلدان العربية تتأثر سلباً بتدهور أسعار براميل النفط. فلم تعد الهبات التي تقدمها تلك الدول بالكرم ذاته الذي كانت الرياضة تحظى به قبل تدهور الأسعار.
من الطبيعي أن ينعكس التقشف الاقتصادي على شتى مناحي الحياة، ومنها الحياة الثقافية.
والثقافة متعددة المجالات، فالرسامون والتشكيليون الذين لا يحتاجون لممارسة مهنتهم سوى إلى قطعة من قماش الكونفاس وبضعة أنابيب الزيت أو الألوان المائية، فإنهم يخشون من عدم بيع نتاجهم ولوحاتهم، لأن عشاق الرسم لم يعودوا بالقدرة الشرائية نفسها، وصارت لديهم أولويات! فنانو المسرح يخشون إلغاء مهرجانات المسارح العربية، لأن المؤسسات الداعية لا يمكنها الحصول على الدعم المالي من قبل دولتهم. المطربون، لم تعد قنوات التلفزة قادرة على تحقيق البذخ في الفيديو كليب والسفر باتجاه الهند وأوربا لتصوير مشاهد لبضع ثوان بملايين الدولارات. لم تعد الإمكانية قائمة ولا حتى أصحاب الشركات التجارية قادرة على صياغة الإعلانات وبثها بالقدرة السابقة نفسها قبل أن تتدهور أسعار النفط. البلدان المتحمسة لأدب الروايات ووضع قيمة الروايات الفائزة قد تصبح المسابقة - كما يشاع - مرة كل عامين!
السينما أكثر الأدوات الثقافية تعبيراً تأثرت بتدهور أسعار براميل النفط، فالمهرجانات السينمائية التي كانت تبذخ على الصيغة «المظهرية» لم تعد قادرة على تحقيقها، بل وتقلصت بعضها من مهرجانين في العام إلى مهرجان واحد في السنة، وحتى بعض المهرجانات فقد تم ألغاؤها وتوقفت بعد أن جعلهم انخفاض أسعار براميل النفط يدركون بأن تلك المهرجانات لم تحقق أهدافاً ثقافية حتى لمواطنيهم، فعدا ليلة الافتتاح لم يشاهد الأفلام سوى ضيوف المهرجان! أما مواطنو تلك البلدان فإن المهرجان لا يعنيهم لا من بعيد ولا من قريب.
وفي الجانب الإنتاجي السينمائي فإن صناديق الدعم تقلصت ولم تبق سوى أسمائها، ليس فقط في المنطقة العربية وبلدان الخليج الداعمة بل تعدى ذلك حتى لصناديق الدعم الأوربية التي من المفروض أنها انتعشت بتدني أسعار براميل النفط!
والسينما أكثر أدوات التعبير حاجة إلى الاستقرار، فإن الواقع الاقتصادي المتدهور قد خلق حالة من الفوضى والاضطرابات العنفية، فالعراق على سبيل المثال توقف في المنطقة الشمالية «إقليم كوردستان» عن دفع رواتب الموظفين ومنتسبي الجيش والأمن، وهي متوقفة منذ خمسة أشهر. والمنطقة العربية في الشرق والوسط والجنوب فإن الرواتب - وحسب تصريح وزير المالية - سوف لن تتمكن الدولة من إيفائها بدءاً من شهر أبريل/ نيسان من هذا العام.
فكيف يمكن لوزارة الثقافة العراقية أن تمد يد الدعم والعون لمديرياتها، مديرية السينما، ومديرية المسارح، ومديرية الفنون الشعبية، والفرقة السيمفونية؟! وإذا كان المنتسبون لا يتسلمون رواتبهم فمن يجبرهم على الالتحاق بالوظيفة «يومياً»، كيف يمكن للمصور أن يصور الأفلام، والمونتير أن يولف الأفلام، ومهندس الصوت أن يسجل أصوات الأفلام وهم لا يتسلمون حتى رواتبهم الشخصية فيما هم كانوا يطالبون بمخصصات عمل إضافية لأنهم يؤدون عملاً إضافياً بحسب مقتضيات طبيعة الفيلم ليلاً أو فجراً أو بحسب مشاهد الفيلم وتعليمات المخرج. هؤلاء الفنيون والتقنيون سوف لن يعملوا، بل أنهم يسعون إلى الهجرة وترك العمل والبحث عن حياة أخرى في بلاد الفرنجة!
في بلداننا لا توجد ثمة إحصاءات كي نعرفها ونعرف حال الثقافة فيها. لا توجد مؤسسات بحث ودراسة كي نعلم عدد المثقفين الموجودين أو عدد المثقفين المهاجرين سابقاً ولاحقاً، أو عدد الغرقى في بحر إيجه، ولا حتى عدد الموتى «قسراً» أي أولئك المحتجين غير المرغوب فيهم! كلهم غائبون، وبغيابهم تغيب الثقافة، وبرحيلهم ترحل من بلدانها نحو بلدان اللجوء فتظهر ثقافة أخرى واسعة ولها سمات مختلفة، ثقافة عربية مهاجرة، كما كانت ثقافة سولجنستين التي هجرت روسيا، وكانتزازاكي التي هجرت اليونان، وكوستا غافراس الذي هجر اليونان وعبر عن موقفه من الدكتاتورية في فيلم «زد»
المثقف ضمير، وضمير حي، وهو الأكثر تأثراً في الواقع وأكثر تأثيراً فيه.
من يريد أن يكسب المباراة السياسية مع تدني أسعار براميل النفط، فإن عليه أن يعقد مؤتمراً للثقافة العربية ويمنح المثقفين حريتهم، فكل ذلك لو فكرنا به ملياً، لا يكلف سوى بضعة براميل نفط إضافية للثقافة، فيبقى المثقفون في بلدانهم أو خارج بلدانهم ولكن في المنطقة، أو حتى في بلدان المهجر، حينها يبقى قلبه في أوطانه ويبني أوطانه من داخل الأوطان أو حتى من خارج الأوطان! ويرفع شعار «وطني دائماً على حق» لا يرفعه شعاراً فحسب، بل ينتج هذا الشعار لوحة ومسرحية وفيلم سينمائي وقصيدة شعر!