رمضان جريدي العنزي
بيروت.. تسيل الشمس على ضفتيها والقمر، أنشودة ماء، حلم يقظة، ومشروع بهاء، غيم، وأرض ربيع، بيروت.. منازل للحب والضوء، وقاموس للحياة الجميلة، جذر للمعاني وبرق للغمام، وسقف للسحاب وأفق لليمام،
أرض ونهر وغيم وفيروز تغني، خميلة، وأرض بكر، وهواء عليل يوقظ النائم من عمق المنام، إيوان الغيوم بيروت، زيتونة بهية، حفنة من نور، مدينة أنيقة، سلال ورد، وعروش كروم، وولادة فصول، وحقول حنطة، وممرات جداول، وأرض للعشب، طفلة بريئة، ينبوع ماء، قنديل، وسهوب جميلة، يحاول الجاحدون الغادرون أن يصيروها مقبرة، أرض للنفايات والعبث والزعرنة، يحاولون أن يسرقوا من عندها ضوء النهار، وأن يهزموها عندما كحلوا عيونها بالرماد. يحاول كسر ضلوعها الرعاع الهمج، ليجعلوها أسيرة، مهانة، كسيرة، وينشروا على جسدها الغض الوباء، يصادرون أصوات عصافيرها الندية، يغيرون مجرى الجداول والسواقي في أرضها البتول، يجيئونها بالعتمة ويغلقون في وجهها شبابيك الضياء، ولحن الغناء، ويخنقون فيها الطفل الذي يركض نحو الحياة، والسراج الذي كان يضيء، ضباع مسعورة يتبعها قطيع ضباع، ترقص مع الحدأة، وتطرب للحن الغراب، تحاول قتل جميع الورود، وتحرم العشب من لقيا الندى، وتذبح نفحة العبق المشبع بالأريج، بيروت كانت سراً للهدوء، حمامة تعشق الهديل، غيمة تجيء من خلف التلال، رعشة هواء عليل، وهج نشيد، أبعاد لغة، في معاجم الحب العتيق، شجرة توت، وتين، ودراق، وعنب، عش دوري، وبيت حجل، يريدها العملاء الجاحدون أرضاً للدم والخراب وأتون رماد، وسماد وتفاصيل هلاك، والسواد يعلو في زواياها الأنيقة، ثعابين هلاك يريدونها مثل جرح قديم، وليل أرق، وهاجس أسى وأنين، يريدونها ظلاماً ولعنة وتعباً، يريدون أن يكسروا فيها الحسن والبياض والمهابة، يريدون تحويلها لقيح، وأصوات بشاعة، لا يريدون للغيمة فيها أن تعلو فوق مفاوز الغيمة، ولا الشعر والحكمة، ولا الروح والنجمة، ولا البذرة أن تلد فيها ألف بذرة، ولا الحمامة حين تشق الفضاء تعود حمامة، يريدون أن يتعبوها الهمج، يريدونها علقماً، وقصة مرة، وروابيها الخضراء الندية زجاجاً، يريدون أن يكسروا صمودها، وأن يدقوا على أبوابها ألف مسمار، يريدون أن يغرقوها في البحر، ويسلموها للمتاهة والسراب والظمأ، يريدونها فقط لرغباتهم الشقية، وأن يأخذوها لحضن الغريب، يتحسسها ويفعل فيها ما يريد الغريب، يريدون أن يحولوا فيها العروبة، ولسانها عجم، ويولجوها متاهات السفر، ويلبسوها المعطف المهتريء الثقيل، ويوغلوها بالحزن والقهر، قصة أرادها الغرباء أن تذوب، جسد مسجى، لكنهم ما علموا بأن لبيروت تجذراً في أرض العرب، وبأنهم تتر، مجرد تتر، يعشقون الراد والحريق، وبأن بيروت جميلة، وبأن لونها الشاحب الذي أرادوه لها لا يجوز أن يكون على وجه جميلة، وأنها مثل نهر يمنح الناظر حنينة، وبأنهم مجرد خشب، مساند خشب، غزاة لأرض العرب، بيروت يا قصة حبنا الذي لا ينتهي، يا عبقنا، يا طوق الياسمين، يا أعمدة النور، لن تنمحي يا عربية، ستبقين عربية، فلا تهتمي لغدر البعض، تألقي بسب أو من دون سبب، ألبسي الذهب، تجملي، تعطري، أشعلي الحب على جمر الحسد، أتركي ريحك الندية تداعب أوجان التوت والعنب، تألقي تألقي، يا مدينة البهاء، الحب فيك لهب، أغسلي وجهك الجميل بماء الزلال، وصبي على وجنتيك العطر، لا تأبهي لهم، أستفيقي من خدرك الطويل، واقرأي لنا الشعر، فالشعر في حضرتك شعر، يا خاتم العقيق، وروح البحر، أزيحي عن جسدك الحزن الثقيل على عجل، فالحزن لا يليق بالريحان، ولا بعود القصب.