أحمد محمد الطويان
استيقظت بيروت على صدمة. وعلاج بعض الأمراض يستلزم الصدمات. ولبنان تمكن منه المرض، ولا تريده السعودية أن يموت بمرضه الذي تعرف جيداً طرق علاجه. المطلوب فقط قليل من الصبر، وسيبتسم لبنان بزهو وبهاء.. من لا يقرأ خطوط السياسة السعودية هذه الأيام لن يدرك ولن يفهم. أصبحت المملكة أكثر رفضاً من أي وقت للمناطق الرمادية، وترفض الملفات المعلقة، ولا وقت لديها لمسايسة المتذمر أو المتنمر أو المصابين باضطراب الهوية السياسية.. ومن يكره الأنصاف سيظفر بالكمال، فلا لأنصاف المواقف، ولا لأنصاف الأصدقاء، ولا لأنصاف المواجهات.
عندما جمدت المملكة هبتها السخية للجيش وقوى الأمن في لبنان فإنها اقتربت من لبنان أكثر بكثير من السابق، ولم تتخلَّ عنه، ولا عن شعبه المغلوب على أمره، بل هي صرخة أولى في وجه «دويلة الضاحية» التي تحاول مصادرة قرار «لبنان الدولة». السعودية تدخلت في الوقت المناسب دفاعاً عن مصلحة لبنان التي يتاجر بها ما يسمى بـ»حزب الله» تماماً كما يتاجر محازبوه بالمخدرات. تريد الرياض اليوم ومعها دول الخليج إعادة رسم ملامح العلاقة، وتوجيه المسار السياسي باتجاه يخدم تثبيت وترسيخ عروبة لبنان وسيادته واستقلاله. ولن تسمح المملكة - كما هو واضح - بأن تستمر في إنفاق المليارات ولا تحصد سوى المواقف المخزية وردود الفعل المسيئة، كما جرى عندما رفض وزير خارجية لبنان «حليف الدويلة» أن يستنكر جريمة الاعتداء على سفارة ومكاتب المملكة في إيران، في الوقت الذي استنكر فيه هذا الفعل المرشد الإيراني خامنئي في محاولة لمداراة الجريمة وتهدئة ردود الفعل الدولية الغاضبة. جبران باسيل «حليف الدويلة» كان أكثر إيرانية وثورية من المرشد الأعلى الإيراني، أي لبنان كان أكثر إجراماً بالمعيار السياسي من إيران وقيادتها المتطرفة، وفي وجه من؟ في وجه من وقف بصدق مع لبنان في الرخاء والشدة وبدون مقابل!!
منحة السعودية التي أوقفت كان يعتبرها «حزب الله» عندما أعلنتها المملكة جزءاً من مخطط إسرائيلي، وعندما أوقفت اعتبر الحزب إيقافها مخططاً إسرائيلياً! واعتمدت قناة الحزب التلفزيونية، ووسائل إعلامه كلها، الربط بين الخليج وإسرائيل لخلق حالة كره شعبية للسعودية والخليج، ولتمكين الخطاب السياسي المتطرف للحزب ولقادته في إيران لحشد الشيعة بالتحديد، وتشويه صورة الخليج في الشارع اللبناني. ولكن الشمس لا يحجبها الأصبع المكسور.
ظهرت تناقضات الحزب وردوده السخيفة على من طالبوا بزيارة المملكة للاعتذار، التي تبيّن مدى الاستهتار والغرور الذي يغطي الخوف من المجهول لدى دمى حسن نصرالله في مجلس النواب ومجلس الوزراء. ولعل أكثرهم إضحاكاً الوزير الذي طالب السعودية بتقديم الاعتذار إلى حزب الله.
أما جبران باسيل وزير الخارجية فكان يردد مقولة الالتزام بسياسة «النأي بالنفس» متناسياً أن زملاءه وحلفاءه لديهم كتائب عسكرية في سوريا، وأن الوحدة الوطنية التي طالب منتقديه باحترامها لا تعني بأي حال من الأحوال الإساءة للسعودية، ولا تعني التخلي عن هوية لبنان ومصالحه.. ليت باسيل راجع التاريخ السياسي اللبناني قبل أن يتشدق بالوحدة الوطنية وهو من رموز تحطيمها ومن أدوات تهشيمها، حتى أخلاقيات الخصومة غيّبها هو وحلفاؤه، وانساق فريق الدويلة خلف الحلم الفارسي بلا تفكير.
ليتهم راجعوا أحداث سنة 68 عندما اشتعل لبنان بعد اغتيال نسيب المتني، واحتدم الصراع بين معسكرين، يمثل الأول كميل شمعون، والثاني حسن العويني. وفي أحد أيام الصراع دخل على العويني أحد مناصريه مبشراً بأنهم اقتحموا دارة شمعون، وأشعلوها، وحققوا النصر الكامل. حينها وقف العويني وقال بأخلاق الكبار «أعوذ بالله من النصر الكامل»؛ لأنه يعرف معنى إلغاء طرف من المعادلة اللبنانية، ويعلم أن مصلحة لبنان هي سبب الخلاف. وحتى عندما أطلق الرئيس اللواء فؤاد شهاب نهجه السلمي «لا غالب ولا مغلوب» كان يعرف أن المصلحة اللبنانية كانت تعلو على أي شيء، وأن المواطنة والوطنية مقدمة على كل شيء. حزب الله الآن بعثر أخلاقيات السياسة اللبنانية، وتغلغل في النسيج اللبناني، وخلق الصراعات باسم الخارج، وبعيداً عن الوطنية اللبنانية، وأميط اللثام عن وجه إيراني قبيح يمثل سلطة احتلال.. لذا أرجو من الوزير باسيل أن يراجع تعريفه للوحدة الوطنية، ويسأل نفسه مَن ضيّع الوطنية؟ ومَن أدمى الوحدة على أساسها؟
لا وحدة وطنية ولا أخلاق إلا في نهج الاعتدال اللبناني الذي قاده الرئيس رفيق الحريري، واليوم يمثل نهجه الرئيس سعد الحريري وزعماء الاعتدال من الطوائف كافة، وتربطهم جميعاً علاقات متميزة مع السعودية، ويعرفون جيداً قيمة الدور السعودي الإيجابي.. وأعتقد أن أصدقاء السعودية في لبنان لديهم كل الفرص الممكنة لفرض واقع جديد، ورسم خريطة لمستقبل يسوده الاعتدال، ويقيم الدولة.
يتطلب ذلك أن يتحلى اللبنانيون المعتدلون بالشجاعة والإقدام، وأن يعرفوا أن التاريخ لا يرحم، وعليهم أن يكتبوا استقلال لبنان من جديد.. وعلى اللبنانيين أن يعرفوا أن الخليج الذي يحتضن أكثر من نصف مليون لبناني يحمل في قلبه الكثير للبنان، وأن الأموال التي أوقفت لم يكن إيقافها لأسباب داخلية كما روج البعض؛ فالسعودية تعين وتساعد من يستحق، وتبني هذه المعونات على مبادئ وأسس فيها استدامة ونفع لكل أبناء البلد، وفي المقابل نجد «دويلة الضاحية» وخلفها المحتل الإيراني يعبثان، ولا يفيدان إلا طائفتهما والموالين لخطهما السياسي فقط.
على 14 آذار الوثوق بالنهج الذي يسيرون فيه، وأن يلتزموا بالدولة أكثر من أي وقت، وأن يعرفوا قيمة الثقة العربية الكبيرة بهم، وأن لبنان أكبر بكثير من طائفة تشيعت سياسياً، ووالت الأجنبي، وأتت بقمامته إلى الشوارع، وتحاول أن تلف عمامته على رأس لبنان.
القادم ثورة العروبة.. وتغيير الأمر الواقع.