د. حمزة السالم
في نفس التاريخ انطلقت كوريا والسعودية لبناء نهضتهما الاقتصادية. فكيف انطلقت كوريا من تحت الصفر وبلا موارد لتصبح في عقود تزاحم الدول العظمى. نهضة كوريا أعظم من النهضة الأوربية والأمريكية. فقد حقق الكوريون في عقود وبسلاسة ما أحوج الغرب تحقيقه قروناً من الملاحم والخسارات العظمى. كوريا تعتبر مقارنة ليست عادلة لنا فقط نحن السعوديون بل هي مقارنة من باب أولى. فقد كانوا قرويين بدائيين وكنا نحن كذلك. فكوريا، التي نصح الجنرال مكارثي الأمريكي قومه بأن لا أمل في إحيائها اقتصادياً، قد انطلقت بسلاسة وبلا فتن ولا ملاحم من تحت حطام الحرب مدمرة تماماً بلا موارد اقتصادية، ولا بنية تحتية ولا خلفية علمية ولا مقدرة عقلية، تحت وطأة حكم ديكتاتوري عسكري، وتحت وطأة تقاليد قبلية وعائلية مرهقة. فلا يتعذر أحد بالديمقراطية، ولا بالبدائية ولا بالقبلية.
وصلت كوريا لأنها أوجدت حلولها بمعطياتها لا بمعطيات أمريكا وأوروبا. فتمردت على الديمقراطية فحكِم الكوريون بالديكتاتورية العسكرية. ونبذوا فكرة السوق الحرة وعدم تدخل الدولة، فأقامت الدولة المشاريع الضخمة. وصلت كوريا لأنها فكرت بعقول ثلة قليلة من النابغين من أبنائها، لا بعقول البصمجية أو المستنفعة أو سُراق الأفكار وأصحاب الخبرات الكاذبة.
طعام الكوريين لا يطيقه غيرهم ولا يطيقون هم طعام غيرهم. وقد انكب الكوريون على دراسة الأطعمة الأوروبية والأمريكية واستجلاب خبراء الأطعمة. لا ليصنعوا طعاماً أمريكياً ولا أوروبياً، ولا ليستخدموا طرق صناعة الأطعمة، ولا لاقتباس الوصفات بمقاديرها. درس الكوريون أطعمة غيرهم، ودرسوا خبرات غيرهم واستجلبوها ليصنعوا طعامهم الكوري، ليزداد أصالة كورية فيزداد تنفيراً وكراهة لغير الكوريين، فبهذا سبقت كوريا وبهذا تميزت فصعب استنساخها. واشتغلنا نحن السعوديين باستجلاب الأطعمة الغربية والأمريكية وخبرائها ليصنعوا هم الأطمعة لنا فنقدمها لندعي بفخر أن نساءنا طبخنها وأن أبناءنا جاءوا بمتطلباتها وأن رجالنا أكلوها. ولم تطبخ النساء ولا تدري ما الطباخة، ولا يعرف الأبناء كيف يأتون بالمتطلبات ولم يأكل رجالنا ملء بطونهم، بل حاشرهم الأوربيون والأمريكيون على المائدة، فنحن في خوف كلما انخفض نفطنا أن يذهب الطباخ والمُورد والمُحاشر لمائدتنا، فمحاشرة بدعوى الكرم خير من جوع ولا فخر كرم.
والأجنبي أجنبي. لا يشعر البعض بالكلفة إذا ما بذل له المليارات فهو أجنبي وكل مستورد غال. والأجنبي كما هو في المثل النجدي «ما يتغطى عليه» فهو غير مزاحم في فخر خدمة الوطن ولا نشعر بالخجل من جهلنا أمامه ولا يعاب علينا في استخدامه. لذا يُحارب السعودي المبدع وتُسرق أفكاره من الوطني ومن الخبير الأجنبي. وهذا يشرح لم أضعنا عشرات التريليونات دون أن نصبح قادرين على صناعة طعام واحد بينما نجح الكوريون في صناعة طعامهم وطعام غيرهم وحصلوا أضعاف ما أضعنا من التريليونات.
والجاهل يناضل لتغطية جهله فهو محارب لكل إبداع وطني بكل طريقة، فإما أن يسرق الفكرة وإما أن يُميتها. ولو أن سرقة الحلول والإبداعات تكفي، لتفاءلت خيراً، فالأجنبي قد كفانا سرقة الأفكار والحلول الوطنية، وهو الذي «لا يتغطى منه» فسيقدم الأجنبي الحل مقابل الملايين ويدعي الوطني الحل وانتهى الأمر. ولكن الحلول العظيمة لا تُسرق ببساطة. فطريق الحل له مفاتيح، وتواجهه عقبات لا يستطيع تجاوزها إلا مبتدع فكرتها، فلهذا تموت الأفكار في النهاية أو تشوه فتخرج مسخاً مكلفاً أضعاف أضعاف لو أستعين بمبدع الحل.
مبدعو الحلول وأصحاب الأفكار يأتون بالفكرة وهي خداج، فإن سُرقت ماتت في مهدها. وإن ربيت في مهد صاحبها نماها حتى كبرت ونضج نموها. وترى الفكرة وهي في مرحلة نضوجها، توجد حلولاً لعقبات تواجهها، تصبح هذه الحلول حلولاً أعظم لمشاكل أخرى متنوعة. فإن لم تنتهب الفكرة من مهد صاحبها، صارت شجرة عظيمة ملتفة كثيرة النفع مثمرة بحلول أخرى واختراعات جديدة. وإن انتهبت فهي كقطع غرسة صغيرة، فإما أن تموت أو تنمو هزيلة مريضة بالكاد تقيم عودها فهي أعجز من أن تولد غيرها. فسُراق الأفكار كزهرة الربيع تذبل سريعاً، فهم غير قادرين على إتمامها واستغلالها بالشكل الأمثل كما أنهم أعجز من أن يطورونها ويخلقوا منها حلولاً أخرى.
فليس هناك سر في أن كوريا أصبحت تسابق الأمم المتقدمة وقد انطلقت من حطام الحرب ومن مستنقع الجهل والتخلف وأصبحنا ونحن نراوح مكاننا تحت رحمة الأجنبي. فالحكم الديكتاتوري للشعب المتخلف الكوري أدرك أن نهضة الشعب بعقول مبدعية لا بعقول السراقين أجانب كانوا أو وطنيين. فحكم السُراق بيد من حديد، فخلق بيئة إبداعية محفزة على الإبداع.
قوم جورج يميزون سُراق الأفكار ويدركون مبدعيها. فالسارق لا يستطيع الدفاع عن الفكرة ولا تطويرها ولا تبيين أصولها. ويكثر في قومي سُراق الأفكار ويجحدون مبدعيها ويحسدونهم «ولا يتغطى على الأجنبي عندهم». فيا ليتني كنت جورج، فأتيهم بلباسه، فلا يتغطى عني، لكنت أنفع لوطني.