د. حمزة السالم
كنت أجد عذراً سياسياً للبنك الأوربي لتأخره في اتباع سياسة برناكي النقدية التي أنقذت بلاده من الأزمة المالية. ولكني كنت استعجب أن يكون معارضي سياسة رئيس الفدرالي هم من كبار الاقتصاديين من أساتذة هارفرد وشيكاغو وستانفورد، أكثرهم عمل كمستشار لعدد من الرؤساء الناجحين اقتصادياً، كريجان وكلينتون. فسياسة برناكي في ضخ الترليونات خاصة وتصفير الفائدة بل وإعطاء فوائد للبنوك على الترليونات المجانية، ثم شراء الرهون الفاسدة بعد ذلك، كانت سياسة خارجة عن جميع المفاهيم العلمية والتصورات الاقتصادية. والأعجب أن بعضهم مازال معارضاً رغم اقتناع البنك الأوربي الآن بهذه السياسة فطبقها متأخراً.
وقد زال عجبي البارحة وأنا أناقش أحد قدماء المخضرمين الاقتصاديين السعوديين الأذكياء المتمكنين من فلسفة الاقتصاد. فكم وجدت صعوبة في إفهامه كيفية إمكانية المواصلة في الإنفاق الحكومي عندنا مع زيادة الاحتياطيات الأجنبية. فعاد إلى ذاكرتي، اللقاءات الحوارية والمناظرات التلفزيونية التي ملأ كبار اقتصاديي أمريكا الفضاء في معارضة برناكي. وأنا أذكر عندما كنت أنصح بتجنب الفائدة المتغيرة عندنا متوقعاً زياد ة عظيمة مستقبلية على فائدة الدولار بسبب سياسة برناكي في ضخ التريليونات. ولكن تنكشف عن الإنسان أحجبة الفهم فجأة فيرى الصورة واضحة. فما فعله برناكي كان بسيطاً لدرجة صعب تصورها. وها نحن اليوم أصبح بعضهم يجحدون ذكاء برناكي ويدعون بأن ما قام به كان أمراً سهلاً لا يستحق. وإنما الإبداع في البساطة. وقد عشنا سنوات لا نسمع إلا صوت برناكي الضعيف وثلة معه، وصوت كبار الاقتصاديين المخضرمين، وسكون الصغار ممن تاهوا بين منطق برناكي الصحيح البسيط، وبين صعوبة كسر طوق التصورات الاقتصادية على الأذهان والأفهام. وانتعشت أطروحات السفهاء والمجانين حتى على مستوى سياسي الكونجرس، كحزب الشاي، في مطالبتهم للعودة للذهب والدعوة لإفلاس أمريكا.
فتأملت في برناكي فوجدت أنه من الممكن أن يكون من الأمور التي أعانت برناكي على فهم حقيقة النقد والوضع الأمريكي والأزمة المالية كونه عاصر الكساد العالمي العظيم، عاشه شاباً طموحاً شغوفاً باحثاً ودارساً له. فالخلفية البحثية الشابة المتحمسة، وإن غابت عن التصور الذهني الحاضر، فإنها تبقى ينبوع الإبداعات الفكرية المستقبلية.
فعدت لأفسر صعوبة فهم الاقتصادي المخضرم رغم تمكنه من أصول فلسفة الاقتصاد، ورغم بساطة ما أحاول شرحه له. فوجدت نفسي غير منصف له. فالفلسفة الاقتصادية قد تكون عائقاً له، كما أن خلفيتي البحثية أيام شبابي وطموحي قد كانت معينة لي.
فأذكر أني كنت شغوفاً بفكرة بيع النفط بالريال السعودي، فطرحتها كموضوع لرسالة الدكتوراه. وأمضيت عاماً كاملاً في بحث طموح فيه شيء من التحدي، وكلما قابلني تحدٍّ إما أنني وجدت له حلاً وإما افترضت وجوده، حتى اقتنعت أخيراً بسذاجة الفكرة وعدم جدواها. ولضيق الوقت بعد أن أضعت عاماً كاملاً استنفدت خلاله طموحاتي وجَلَدي، رأيت الرجوع لبعض مخلفات بحوثي لألتقط ما يمكن تجميعه لأجعله رسالة الدكتوراه. فكان عنوان رسالتي الاحتياطيات النقدية الأجنبية للدول المصدرة للطاقة. فقد مات البحث في موضوع الاحتياطيات منذ عام 1973م وأحياه من جديد أزمة نمور آسيا في 1997م. فكان أمامي فرصة واسعة. فشتان بين مفهوم الاحتياطيات زمن الذهب وبين مفهومها الضبابي في زمن التعويم والعملات التي لا قيمة لها في ذاتها. وكذلك، إن الدول المصدرة للطاقة لم تدخل قط ضمن أي بحث قديم أو جديد يتعلق بالاحتياطيات نظراً للتذبذب الواسع في مداخيلها. ونظراً لبحثي في بيع النفط بالدولار، فقد سها عليّ وضع النموذج الجديد. ولكن التحدي الذي واجهته هو ظهور طرق إحصائية جديدة متطورة، هي الأليق باختبارات نماذج الاحتياطيات. فالطرق حديثة لا تزال في المهد، وتعتمد اعتماداً هائلاً على الرياضيات والاحتماليات. وآخر عهدي بالرياضيات في المتوسطة، ثم دراستها جميعاً في عام واحد كشرط لقبولي في الدكتوراه. والرياضيات تحتاج لسنوات لتملأ شغاف الفكر، فبالكاد نفعتني دراستي المستعجلة في تجاوز كورسات الدكتوراه على دخن في فهمي لها. فلم أجد حلاً لتجاوز هذا التحدي إلا التعلم بالتجربة والتكرار. فكنت أجري النموذج في الكمبيوتر مئات المرات في اليوم، في كل مرة أغير رقماً أو مجهولاً، من الفجر إلى مغيب الشمس، حتى أصل إلى فهم النموذج الرياضي ومؤثراته. ولعل هذا كان سبباً أساسياً في غرس أساس التفكير التسبيبي، وتأثير المؤثرات وغير ذلك. وتأتي تجارب الحياة بتجاربها في المناظرات الدينية وفي كشف عورات دراسات الجدوى الاقتصادية، وفي المواجهات الإنسانية، لتصقل هذا كله فيرى المرء أنّ الأمر بسيط وسهل، ولكنه لو أنصف لأدرك مدى خفائه ومدى سماكة حواجز الرؤية عند الآخرين. فإنما خلفية المرء - الذي رأى - هي مناظيره التي رأى بها، بينما خلفية غيره - ممن صعب فهمه - هي عصابة على عينه تمنعه من رؤية قريب قد وضع أمام بصره. ولهذا - والله أعلم - سهل عليّ رؤية بطلان الربا في النقد فخلاصته في سطرينسهل عليّ رؤية خلق التمويلات وحفظ الاحتياطيات، وخلاصتهما في جدولين، كذلك. وكلاهما أوقعاني في ورطة البسيط الخفي ومخالفة المفهوم العام. وكلاهما يواجهان اختراقاً للأيدولوجية. وصلابة أيدولوجية الاقتصاد لا تبعد عن صلابة أيدلوجية الأديان. فالاختراق حاصل لا محالة، ولكن تليين الأيدلوجية قد يستهلك زمناً، يخسر فيه قوم ويربح آخرون، وتعز فيه أمم وتذل أخرى. وما تأخر البنك المركزي الأوربي عن الفدرالي الأمريكي إلا مجرد شاهد بسيط ماثل أمامنا.