د. عبد الله المعيلي
من طبائع الأمور ومسلَّماتها، ومما جرت عليه العادة، خاصة لدى التجار ورجال الأعمال، إجراء محاسبة دقيقة، تتمثل في جرد الحركة المالية بصفة يومية لعمليات البيع والشراء، والتحقُّق من صحة حركة المبالغ المالية ذات الصلة بهذه العمليات، وذلك وفق نظام محاسبي مُحكم دقيق. وبهذا تتم السيطرة التامة على صرف المال وتحصيله، وقطع الطريق على أي مدخل للتلاعب أو الهدر أو السرقة أو غيرها مما يعرفه لصوص المال. ويتحقق بهذا ضبط المال وصرفه في الأوجه المحددة له، وكذا المحافظة عليه وتنميته.
يفترض أن تُغرس هذه السمة المميزة في كل إنسان خلال سنوات تكوينه الأولى؛ لتبدو سمة أصيلة في ممارساته الحياتية اليومية كافة، ليس في مجال المال فقط، بل في كل ما يقدم عليه الإنسان ويمارسه من أعمال دينية أو دنيوية، عامة أو خاصة. فأمانة أداء العمل وإتقانه يُعدَّان من المسؤوليات العظيمة التي تتطلب إعداداً معرفياً ونفسياً؛ كي تتأصل في سلوك الإنسان؛ فتغدو ملازمة له أينما كان موقعه.
الإنسان بفطرته مجبول على حب المال وتحصيله؛ قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (20) سورة الفجر؛ لذا تجد الإنسان يسخّر كل جهده ووقته، ويجهد نفسه ليل نهار في سبيل تحقيق المزيد والمزيد من المال. ومن العجب أنه لا حدود تحده، ولا سقف يقف عنده بحيث يقول لنفسه: «كفى لقد حققت ما يكفيني ويكفي عيالي بل يزيد عن الحاجة من الضروريات والكماليات». فعندما يحصل على المليون الأول يتطلع إلى المليون الثاني، وهكذا يلهث ويلهث، وتنفتح الشهية وبشراهة إلى رؤية المزيد من الملايين تتراكم في الرصيد، مضحياً في سبيل ذلك بكل شيء! المهم.. «هل من مزيد»؟!
أن يسعى الإنسان في جمع المال والاستزادة منه فذاك أمر مفهوم؛ لكون النفوس جُبلت على حبه، وهو مما يساعد على إعمار الكون، وتحريك عجلة التنمية التي تعد من ضرورات الحركة المجتمعية، ولكن يجب أن يكون جمع المال وتنميته والاستزادة منه وفق ضوابط صارمة واضحة، وتحت مظلة المباح، ووفق الأساليب والطرق المستقيمة.. لكن الملاحظ أن البعض يلهث ويلهث في جمع المال دون مراعاة لمقتضيات الأمانة والمشروعية في الكسب والاستزادة من المال. ومما ساعد على هذا وسهَّله غيبة المراقبة الدقيقة والمحاسبة الصارمة لكل من يتخطى الخطوط الحمراء في صرف المال والاستحواذ عليه، وأخص المال العام تحديداً، والخاص بطبيعة الحال؛ إذ نرى البعض يتحايل على الأنظمة ويتجاوزها في عمليات ترسية المشروعات وصرف مخصصاتها. تقول العامة في أمثالها الشعبية ذات الدلالة الصحيحة، والمعنى العميق: «المال السائب يعلِّم السرقة». ويقال: «مال تودعه بعه». فعندما تجتمع غيبة المحاسبة، وموت الضمير، فقُلْ على ضبط صرف المال السلام.
لقد تواتر التذمر من سوء صرف المال العام، والتجاوز في ترسية المشروعات وصرف المستحقات، بل في سرقته في بعض الأحيان. ومما زاد التذمر وصور الاحتقان ضعف الأداء في الأجهزة الحكومية ذات الصلة بمصالح الناس وحقوقهم، التي يخصَّص لها المليارات في الميزانية العامة للدولة كل عام.
نعم، تم تكوين هيئة تعنى بمكافحة الفساد أو ما تسمى (نزاهة)، إلا أن هذا الجهاز لا يمكن أن يُحكم السيطرة على كل الممارسات المالية في أجهزة الدولة، ولن يُتوقَّع منه تحقيق ذلك إطلاقاً، ولكن بدلاً منه يمكن أن تُسند بعض مهمات النزاهة إلى المجالس المحلية ومجلس الشورى، وفق مستويات محددة من الصلاحية في المراقبة والمتابعة واقتراح الجزاءات المحاسبية التي تردع موتى الضمير من مد اليد على المال العام وإساءة صرفه.