كوثر الأربش
السؤال حول المشاعر مُربك، خصوصًا عندما يكون حقيقياً، عندما تعرف بأنك مهما قلت لن ترضى عن كل الكلام الذي قلته؛ فحين وجه لي الصحفيون والمذيعون سؤالاً حول مشاعري بعد نيلي للجائزة، على هامش تكريم المفتاحة في أبها؛ لم أجب.. سكت.. اندفعتُ للفراغ المهتز في داخلي بحثًا عن ما يفترض أن أشعر به، عن ما أريد فعلاً إخراجه من بين شفتي، وأن يكون مقنعاً لي أولاً، مقنعًا لنظرات الآخرين الذين ينتظرون ما سأقول. لكنني في الواقع واجهتُ مشاعر مختلطة، معقدة،مختلفة، أنا نفسي لم أفهمها، بمعنى أكثر دقة لم أفهمني أمام تلك اللحظة. كنت أواجه أسئلة أرهقت عقلي المشغول بالحفر والتنقيب عن معنى هذا التكريم بطريقة ليست عادية، كما تفعل العقول التي لا ترضيها السطوح والافتراضات والنتائج المسبقة، فماذا يعني أن توهب قطعة جميلة من الزجاج المزخرف والمدون أسفله اسمك؟. ماذا يعني أن ترتجّ الصالة بالتصفيق بعد ذكر اسمك؟. هكذا كان عقلي يحاول تجريد الأمر بحثًا عن إجابة أعمق. ثم خطر لي أن المعنى أبعد من تصفيق ودرع وفلاشات ومنصة. المعنى مرادف للوطن. وحين يتعلق أي شيء بالوطن فإنه يخبرك بالمعنى الأكثر اهتماماً من المعاني الأخرى، معنى يشي بالوجود، العقيدة، الشرف، الجذور والبقاء. شعرتُ -بغتة- كما لو أن الوطن يتحول لأم، تقول لك في نهاية يوم شاق:
- كل شيء بخير.
تضمد جرحك لتعود للركض من جديد. هكذا شعرت -تقريبًا- وأنا أتوجه لاستلام الجائزة. أن القيمة تكمن في ذاكرة وتاريخ أرضٍ عبر عليها ملايين بل مليارات الأقدام، أنك حاولت أن تحافظ على هذا التاريخ بما تملك من أسلحة الكتابة بدلاً من البنادق والأحزمة الناسفة التي يستخدمها أعداؤه. وأن هذا الفضاء المتحرك، بنجومه وأقماره تمكن من تمييز ذلك. من تمييز أنك تفعل أمراً لم يعد قابلاً للمحو. أن الجميع يراك ويرى رسائلك البعيدة التي أرهقت صباك وشبابك وتمكنتْ بعد الركض الطويل من الوصول. لا يمكنني أن أخفي -أيضًا- أني شعرت بالحزن. الحزن الذي طالما أتى في غير وقته؛ لأني فكرتُ بكل تلك الأقلام الحرة التي أرقها نماء هذا الوطن، قوته وأمانه، أرقها مستقبلنا، حضورنا الدولي والاقتصادي، حضورنا التنموي والسياسي. أعني المبارزون غيري بأقلامهم لجيوش الجهل والدمار والكراهية والتخلف والطموحات التوسعية سواء في الصحف أو في مواقع التواصل الاجتماعي. فكرت فيهم وشعرت أني لم أكن أقف وحدي على المنصة، كانوا معي، بداخلي يكتبون ويمحون. فكرت في الأمهات أيضاً، كل من كانت أثناء صعودي للمنصة تعالج في صدرها حنينًا حارقًا لعزيزها الذي خطفه التفجير والإرهاب، أمهات شهداء الواجب، حماتنا الساهرون بعد الله على الحدود. وأمهات المغدورين في المساجد، في الدالوة والقديح وسيهات والعنود وعسير ونجران. هكذا اتسع قلبي كما لو أن قلوبهن جميعًا تحتضن بعضها في صدري. كنتُ هناك، وكنّ بداخلي يرددن بقوة، بصدق:
- فداك يا وطن.
إنك لا تختار أقدارك، لا تختار أن يُصعّد ابنك على ظهور المشيعين، بدلاً من صعود الطائرة ذاهبًا لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا استعدادًا للجامعة. لا تختار أن تقبل جبينه القبلة الأخيرة، بدلاً من إيقاظه للمدرسة. وأنت لا تختار موهبتك أيضًا، فقد جئتُ لهذه الحياة من رحم الكتابة، من المحاولة الدائمة على رصد أفكاري بإصرار، وبإعلانها دون خوف بعد. لكننا -مهما كانت الموهبة التي وهبنا الله دون اختيارنا- نستطيع اختيار أين نتّجه بأقدارنا ومصيرنا النهائي: للتدمير أم للإصلاح؟. لمآزرة وطنك وقضاياه، أم لمناكفته والارتماء في أحضان الآخر؟. وهذا هو التحدي، هذا هو الخلود.