اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
أكاد أجزم أنه قبل انطلاق شرارة (عاصفة الحزم) الحاسمة المباركة، كان كثير من العرب، فضلاً عن السواد الأعظم من بقية شعوب العالم الأخرى، يجهلون وجود دولة عربية اسمها (الأحواز) على الخارطة، ترزح تحت أغلال الاستعمار الإيراني منذ تسعة عقود؛ بل أحسب أنه حتى المثقفين والمشتغلين بالسياسة، الذين كانوا يدركون وجودها، يجهلون حقيقة ما ترزح تحته من نير استعمار صفوي بشع؛ تفنن في ممارسة ظلم أهلها، وأذاقهم الأمرين، وأبدع في طمس هويتها.
لقد تابعت حديث الأخ الفاضل المناضل المجاهد، الأستاذ محمود حسين بشاري الكعبي، أحد أبرز مؤسسي الجبهة العربية لتحرير الأحواز، التي تأسست عام 1401هـ، الموافق للعشرين من أبريل عام 1980م، ورئيسها الأسبق، الذي استضافته قناة العربية في برنامج (الذاكرة السياسية) على مدى شهر تقريبا؛ أقول.. تابعت حديث الرجل بمشاعر مختلطة، متفقة حيناً ومتناقضة أحياناً أخرى، فيها كثير من الحزن والألم والحسرة والدموع، لكن في الوقت نفسه، مترعة بالأمل والتفاؤل واليقين.
أما الحزن والألم والحسرة والدموع، فبسبب ما أورده الرجل من ظلم شنيع، يعيش أهلنا هناك تحت ربقته لمدة تناهز القرن؛ أي منذ احتلال شاه إيران، رضا خان بهلوي دولة بني كعب العربية في الأحواز عام 1344هـ، الموافق للعشرين من أبريل عام 1925م، واقتياد آخر حكامها العرب (الشيخ خزعل بن جابر بن مرداو بن علي الكعبي) إلى طهران، ليقضي نحبه في سجونها في ظروف غامضة، قيل إن الفرس دسوا له السم في طعامه عام 1355هـ، الموافق 1936م؛ أي بعد أحد عشر عاماً من سقوط دولته وضياع ملكه، فقد كان الرجل أول من انتبه لخطر المد الصفوي، إذ دعا عام 1333هـ، الموافق 1914م، لوحدة عربية جامعة تقف في وجه الفرس.
ومن ثم بدأ الصفويون في تعذيب إخوتنا العرب هناك، والتنكيل بهم، وطمس هويتهم بتجريدهم حتى من حقهم في أسماء مواليدهم، بل حتى أسماء القرى والأنهار والأماكن، وحرمانهم من ارتداء زيّهم العربي؛ بعد أن سيطروا على كل ثرواتهم؛ في عمل ممنهج لتحقيق المشروع الصفوي التوسعي الاستيطاني؛ الذي بدأه عباس الصفوي عام 907هـ، الموافق 1501م.
فالأحواز اليوم بعد تسليط الضوء عليها إثر اندلاع (عاصفة الحزم)، دولة عربية قلباً وقالباً؛ بل إن أهلها عرب أقحاح وليسوا مستعربين، ويعود تاريخها إلى عام 3500 قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ومساحتها 370 ألف كيلو متر مربع، أي تساوي مساحة فلسطين التاريخية أربعة عشر مرة تقريباً، أي أن الفرس اغتصبوا من أرض العرب أربعة عشر فلسطيناً، وليس فلسطياً واحدة كما فعل اليهود.. وأرجو ألا يفهم أحد أنني أقلل من خطر اليهود وجرمهم الشنيع، فكلاهما (الفرس واليهود) وجهان لعملة واحدة، اغتصبوا أرض العرب، وشرّدوا أهاليها وعذّبوهم وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم.
وتعد الأحواز بجانب هذا، امتداداً طبيعياً للعراق، التي قدّمها الأمريكيون لإيران على طبق من ذهب؛ وهي بالتالي تمثل البوابة الشرقية للعرب، والمنفذ الأساسي الذي يمكِّن إيران من السيطرة على المنطقة، هذا بالطبع فضلاً عمّا تتمتع به من أهمية جيوسياسية، إذ تمثل اليوم (80%) من إنتاج إيران من النفط والغاز والكهرباء والمياه، فهي منجم ثرواتها الأساسي.
والعجيب الغريب، الذي ربما يجهله كثير من الناس، أن النفط أكتشف في الشرق الأوسط لأول مرة في الأحواز هذه عام 1321هـ، الموافق 1903م؛ كما شهدت الأحواز ظهور أول بئر للنفط في الشرق الأوسط عام 1326هـ، الموافق 1908م. وهي بهذا تشكل نصف الدخل القومي الإيراني، وأكثر من (80%) من صادرات إيران.
أما السبب الثاني للشعور الإيجابي بالأمل والتفاؤل واليقين، فلأن إخوتنا في الأحواز مازالوا عازمين على طرد الاستعمار الصفوي من وطنهم، وتصفيته بكل الوسائل الممكنة، مهما كانت التضحيات، رغم أنف جبروت المستعمر وما نصبه لهم من مشانق يومية، لم ترحم حتى براءة الطفولة وضعف النساء؛ فقد نظَّم الأحوازيون حتى اليوم خمسة عشر انتفاضة خلال هذه التسعين عاماً التي ترزح فيها بلادهم تحت بطش الاستعمار، أي بمعدل انتفاضة واحدة كل ستة سنوات، وأحسب أن هذا جهداً صادقاً مقدراً، مقارنة بتواضع إمكاناتهم، وقدرات عدوهم الهائلة التي أزعجت الغرب بتطلعها لامتلاك السلاح النووي.. ومع هذا، ما تزال همَّة إخوتنا الأحوازيين عالية، وعزيمتهم ماضية لتقرير مصيرهم.
وعلى كل حال، اكتفي هنا بهذه النبذة الموجزة عن الأحواز، لاسيما بعدما ظهرت قضيتها للرأي العام العالمي خلال العام المنصرم، منذ اندلاع عاصفة حزم سلمان الإسلام والعروبة والإنسانية والمروءة، كما أسلفت، لأدلف للسبب الجوهري المهم الذي دعاني لكتابة هذا المقال، متفقاً مع الأخ محمود الكعبي، على أن ما بيننا وبين الفرس هو صراع هوية وصراع وجود، لا يقل شراسة وخطورة عن صراعنا مع العدو الإسرائيلي، إن لم يكن أشد خطورة منه؛ يهدف ابتلاع المنطقة برمَّتها، بل ليس هذا فحسب، إذ تشرئب أعناق الفرس لآسيا وأفريقيا، كما يؤكد تغلغلهم ومحاولة تأثير نفوذهم في أكثر من دولة هناك.
وصحيح، ربما اندهش البعض من تأكيدي على أن صراعنا مع الفرس أشد ضراوة من صراعنا مع إسرائيل؛ والسبب أن قضيتنا مع إسرائيل واضحة ومحددة؛ أما صراعنا مع الفرس، فتكمن خطورته في لبوس الدِّين وإشعال جذوة الطائفية، إذ نصب الصفويون نفسهم بذكاء شديد، أو قل بخبث أكيد، حماة للشعوب في المنطقة، ليؤلفوا القلوب إليهم من بوابة الدِّين، فيكسبوا تعاطفهم وتعاونهم، بل حتى تبني أجندتهم، كما يفعل حزب الله اليوم في لبنان، بعد أن استقوى بالفرس وخطف الدولة وصادر قرارها الرسمي، كما رأينا في الفترة الأخيرة؛ فضلاً عن تعطيله انتخاب رئيس للجمهورية لعامين تقريباً، في سابقة لم أعرف لها مثيلاً في تاريخ البشرية.. وإلا لماذا فعلت إيران كل هذا العذاب والتنكيل بإخوتنا عرب الأحواز، مع أن معظمهم ينتمي للمذهب الشيعي، الذي هو مذهب الفرس نفسه؟
وقطعاً لا أتحدث هنا عن طائفية مقيتة، بل أردت أن أؤكد أن ذريعة الدِّين التي تستغلها إيران لتقطيع أوصال المنطقة وإضعافها، ومن ثمّ السيطرة عليها، ليست صحيحة؛ وإلا لماذا أيضاً أعدمت إيران كثيراً من العراقيين الشيعة أثناء حربها ضد العراق في ثمانينيات القرن الماضي؟.. أترك الإجابة للحشد الشعبي في العراق اليوم. بل أكثر من ذلك: لماذا دعمت إيران أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان المسلمة التي تعتنق المذهب الشيعي، في النزاع المسلح الذي اندلع بينهما؟ ولماذا... ولماذا... وقائمة طويلة من الأسئلة التي لم تعد تنطلي إلا على السّذّج.
إذن، الأمر جلي لا لبس فيه: صراع إيران معنا هو صراع هوية ووجود، وعلينا أن نتعامل معها بهذا المنطق الذي لا تفهم غيره، حتى تثبت لنا العكس، فطالما استعملنا معها الود واللطف واللين، مراعاة لحق الجوار وأخوة الإسلام؛ لكن الفرس صموا آذانهم وتمادوا في غيّهم، غير آبهين بما نبديه لهم من تعامل كريم. ولهذا ينبغي علينا نصرة إخوتنا العرب في الأحواز السليبة، والوقوف إلى جانبهم صفاً واحداً حتى تحرير دولتهم من قبضة الاستعمار الصفوي، الذي يتشح اليوم عباءة الدِّين. ليس من باب التدخل في الشؤون الداخلية والسعي لزعزعة الاستقرار، أو بدافع التوسع، كما تفعل إيران اليوم في بلادنا، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن الذي جرّده التدخل الإيراني من أي معنىً للسعادة؛ بل من منطلق مناصرة الحق والانتصار للمظلوم، وفق مبادئ القانون الدولي، الذي يقر حق تقرير المصير ودعم الشعوب المحتلة للتحرر من ربقة الاستعمار.
وعليه، أدعو جامعة الدول العربية، التي اعتذرت المملكة المغربية عن استضافة دورتها القادمة، بحجة عدم وجود مشروع جوهري يستحق، لدعم الإخوة الأحوازيين في الشتات لإعلان استقلال دولتهم، ومن ثمّ منح دولة الأحواز المستقلة مقعدها المستحق في جامعة الدول العربية، وفتح سفارات لها في جميع الدول العربية، ودعم الإخوة الأحوازيين في الداخل للصمود في وجه الظلم والبطش الفارسي.
وبالمقابل، مطالبة أصدقائنا في جميع دول العالم، لاسيما في أمريكا اللاتينية، لمناصرة أشقائنا وفعل الشيء نفسه. فهكذا نجبر العالم للاعتراف بدولة الأحواز طوعا أو كرها، ومنحها مقعدها المستحق أيضاً في الأمم المتحدة. ويجب ألا نعوِّل على الغرب كثيراً في هذا الأمر، لأنه هو السبب الأساسي في ضياعها، كما ضيّع فلسطين، سعياّ لتسوية حساباته السياسية التي أدت لتفريس حتى هواء الأحواز.. أليس بريطانيا هي التي تآمرت على تسليم الشيخ خزعل الكعبي للجنرال الفارسي زاهدي حاكم المحمرة، ووعد بلفور وزير خارجيتها، اليهود من قبل بوطن لهم في فلسطين، في ما عرف بـ(وعد بلفور المشؤوم) عام 1336هـ، الموافق 1917م، ليتحول الوعد إلى حقيقة مرة في دولة الكيان الصهيوني اليوم على أرض فلسطين الحبيبة؟
فيكفي إخوتنا الأحوازيين ظلماً، فقد خذلناهم لقرن كامل تقريباً، وآن الأوان اليوم أن نكفِّر عن خطئنا وتقصيرنا تجاههم، ونتحمل مسؤوليتنا في نصرتهم الواجبة علينا، فنحن أمة عربية واحدة، تجمعنا عقيدتنا الإسلامية قبل لحمتنا العربية، إخوة متحابين متعاونين على البر والتقوى، ولا مكان عندنا لطائفة مقيتة، فلا أحد بيننا يصادر حق الآخرين في اعتناق ما يراه من مذهب، امتثالاً لقول الحق سبحانه وتعالى، الذي كفل لعباده حرية المعتقد، إذ يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (29 سورة الكهف). وقوله عزَّ وجل، مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99 سورة يونس).
فنحن العرب اليوم اثنان وعشرون دولة، تعدادنا (370) مليون نسمة، ونمتلك ثروات هائلة متنوعة ولله الحمد، مقابل عشرين مليون هو كل تعداد الفرس في إيران، بجانب القوميات الأخرى من الأكراد والبلوش والآذاريين والتركمان، إضافة لإخوتنا الأحوازيين. وآن الأوان للحزم والحسم والعمل الجاد، وعدم المجاملة والنفاق، كما يؤكد سيدي الوالد، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه.
فأرجو صادقاً من كل قلبي، أن يكون طرحي هذا أهم الموضوعات على أجندة القمة العربية القادمة؛ بصرف النظر عن مكان انعقادها: في المغرب، موريتانيا أو مصر.
فكلما أبدينا حسن النية (للإخوة) في إيران، تمادوا في كل ما من شأنه تأكيد نيتهم المبيتة للسيطرة على المنطقة؛ والدليل ما تناقلته وسائل الإعلام وأنا أختم مقالي هذا، من تصريح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد علي خامنئي، من تنسيق إيراني - روسي، للتدخل في اليمن؛ على غرار ما يجري في سوريا اليوم، وكأن ما سال من دماء هناك بصواريخ الروس وبراميل الأسد المتفجرة، إضافة لمن لقي حتفه في عرض البحار وشرد في قارات العالم أو أصبح هائماً على وجهه في بلاده، لا يدري ما يفعل، فضلاً عمّا لحق بالبنية التحتية من خراب ودمار، وما احتقن في النفوس من حقد دفين؛ بالطبع بجانب ما ألحقه تحريضهم ودعمهم المكشوف للانقلابيين الحوثيين في اليمن.. كأن هذا كله، لم يشبع تعطش الفرس لخراب المنطقة والتنكيل بأهلها.
من جهة أخرى، أقدم للقمة العربية القادمة، التي ستعقد في السادس والسابع من أبريل المقبل، أيضاً بنداً مهماً؛ أتمنى أن يحظى بما يستحق من اهتمام ضمن أجندتها: مطالبة مجلس الأمن منح الدول العربية مقعداً إلى جانب الخمسة الكبار الدائمين، الذين يتمتعون بحق النقض (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، روسيا والصين)، فمن وجهة نظري المتواضعة، انتهى عهد السيطرة والهيمنة على الشعوب، التي لم تعد ضعيفة كما كان الحال في السابق، وآن الأوان أن يأخذ العرب حقهم في تقرير مصير العالم، جنباً إلى جنب مع غيرهم.
وإن لم تُحْظَ دولة عربية واحدة بهذا الحق، فأضعف الإيمان أن يكون لنا نصيب مجتمعين، بحيث تشغل إحدى الدول المقعد لمدة عام، وهكذا يتم تدوير المسؤولية وفق آلية مقر انعقاد القمة العربية (حسب ترتيب الحروف الأبجدية).
أو قل لنكن أكثر تسامحاً وأقل طموحاً مع الخمسة الكبار، فنطالب بمقعد دائم مع بقية الدول الإسلامية في العالم، بحيث يكون للدول العربية والإسلامية مجتمعة (57 دولة) مقعد واحد فقط دائم في مجلس الأمن إلى جانب الخمسة الكبار، ويتم تدويره بين جميع الدول بالآلية نفسها، أي أن كل دولة تشغل المقعد الدائم في مجلس الأمن مرة واحدة كل ستة وخمسين عاماً.
و أحسب أنه لا يوجد في الدنيا تسامح وتواضع في الطموح أكثر من هذا. أما إن رفض (الكبار) الاستجابة لطلبنا المحق، الذي أرى أنه حق أصيل لنا نطلبه بملء الفيه، بل تأخرنا كثيراً في المطالبة به، فعلينا تشكيل مجلس أمن عربي - إسلامي موازٍ لمجلس اللاعبين الكبار، لا يكترث لأي (فيتو) يهدف لاستغلال العرب والمسلمين وتعطيل مصالحهم.. لقد نفد صبرنا، وحان الوقت لكي نضع حداً لنظرية المؤامرة التي كلفتنا كثيراً من الأرواح والدماء والثروات؛ ولنتفرغ مثلهم للبحث والتفكير والإبداع، فمن حق شعوبنا أيضاً العيش في رفاه، والاستمتاع بالحياة كما يفعلون.