علي الصراف
إضفاء طابع ديني، على موقف سياسي، هو نوع جلي من الحمق. وهو واحد من أهم الأسباب التي تجعل «الإسلام السياسي» نفقا مظلما، يسيء الداخل فيه توظيف الدين، كما أنه يسيء فهم السياسة في آن معا، ولا يخرج منهما إلا بفضيحة أو ورطة.
العجيب، أنه يمكن لهذا الحمق أن يكلف الكثير من سفك الدماء، كما أنه يدفع بالكثير من الموارد والإمكانات إلى وراء الوراء، من دون طائل في النهاية، فالدين ثابت بطبيعته أبدا، والسياسة متغيرة بطبيعتها أبدا.
ولئن عرف تاريخ المنطقة الكثير من الحركات السياسية التي حاولت اكتساب الشرعية من الدين، وأضفت طابعا قدسيا ومطلقا على مواقف وخيارات سياسية متغيرة، فإن الواقع سرعان ما كشفها كحركات تمارس استغلالا بشعا للدين، من أجل أن تُقنع الرعاع من حولها بأنها تصدر عن موقف مقدس، وأن كل ما تفعله صحيح.
ولأن المسلمين يعرفون دينهم، فإنهم لطالما كانوا قادرين على عزل تلك الحركات ودفعها إلى الهامش، باعتبارها شيئا شاذا. وبسبب ذلك الهامش، فقد بات التطرف ردا مألوفا لتلك الحركات، إنما ليزيدها عزلة وإعلانا للفشل.
على العكس من هذا السائد في مختلف بلاد المسلمين، فقد احتل «الإسلام السياسي» مكانة «المركز» في إيران منذ العام 1979. وسوى السلطة المطلقة التي خولها «الولي الفقيه» لنفسه، فقد بات كل شيء في حياة الإيرانيين هو الذي يقيم على الهامش!
ومنذ اللحظة الأولى دخلت إيران في نزاع مع العالم بأسره، وليس مع جوارها فقط. والسبب مفهوم. فكل ما يصدر عن «الولي الفقيه» مقدس، وكل ما يفعله العالم، والجوار، وباقي الناس، غير ذلك. ولا توجد تسويات، ولا مناطق رمادية، كما لا توجد مصالح.
وهذا منطق، أقل ما يقال فيه، إنه تصادمي وعدائي بلا مبرر.
في ذلك الوقت، ومن أجل إضفاء صفة مطلقة على العداء مع الولايات المتحدة، أطلق الخميني وصفه الشهير لها: «الشيطان الأكبر».
وبحكم الطابع الديني لهذا الوصف، فقد أصبح أي تعامل مع الولايات المتحدة محرماً سياسياً، كما أنه محرم دينياً.
إلا أن الواقع لم يكن كذلك على الإطلاق. فتعاملات إيران التجارية والسياسية والإستراتيجية والأمنية مع الولايات المتحدة ظلت سارية، ولو في الخفاء. وكان ذلك واحداً من أكبر أدلة النفاق في المذهب الفارسي للسياسة.
وعلى طول الخط، ظلت إيران تدفع ثمن موقفها المنافق. فالناس كانت تدرك وترى أن إيران ترفع شعاراً وتمارس غيره.
وإلى حد بعيد كان الأمر محرجاً للقادة الإيرانيين أنفسهم، فالمكانة الاستثنائية التي احتلها الخميني، في إيران ما بعد 1979، جعلت هذا الموقف عقدة، لم يعرف الزعماء الدينيون كيف يخرجون منها، أو كيف يلتفون عليها من أجل أن يجعلوا من علاقاتهم المتنامية مع الولايات المتحدة أكثر من مجرد نفاق متواصل.
كانوا يبحثون عن سبيل لممارسة السياسة من دون إسلام، بينما ظل شعارهم يؤشر على ما يفترض أنه إسلام من دون سياسة. وكان ذلك بمثابة نفق مظلم، دخلوه ولم يعثروا على سبيل للخروج منه.
في البحث عن مخرج، عمد خامنئي، وريث الخميني، إلى أن يحفر نفقا جديدا، إلا أنه ظل يدور حول الفكرة ذاتها، فأطلق وصفا جديدا على الولايات المتحدة يصفها به بأنها
«الصنم الأكبر».
مرة أخرى، أضفى «الولي الفقيه» صفة دينية ثابتة، على موقف سياسي متغير. وبينما كانت إيران تمهد لعلاقات وثيقة مع «صنمها» الأكبر، فقد ظل النفاق نفاقا، والفضيحة مستمرة.
إنما باستثناء شيء واحد، هو أن خامنئي أراد أن يكحلها فعماها!
فالمسلم، ليس مطلوبا منه أن يقتل الشيطان. إلا أنه إذا واجه أصناما، فعليه أن يهدمها.
هل كان يريد خامنئي أن يهدم الولايات المتحدة، بوصفها «صنما أكبر» بينما هو يمهد لصفقات معها، أم أنه كان يقصد إنها لم تعد شيطانا؟
في الحالتين، ظل سوء التوظيف قائما. وأصله، هو ذلك «الإسلام السياسي» الذي قدم، المرة تلو الأخرى، دليلا على أنه نفق مظلم، لا تدخله إلا بورطة، ولا تخرج منه إلا بفضيحة.