قاسم حول
لا أعرف من الذي فكر بأن يكتب في نهاية كل فيلم كلمة «النهاية» إذ يمكن بانتهاء الفيلم أن يذكر اسم الفيلم واسم المخرج وليس من ضرورة لتدوين كلمة النهاية! .. أحاول منذ فترة أن أتخلص من كلمتين في تايتل أفلامي .. كلمة «إخراج» الذي لم أجد لها معنى «بالعربي» يعبر عن إبداع المخرج وكلمة «النهاية» التي تكتب في نهاية الفيلم.
عدت أفكر من جديد بعد أن قرأت نبأ رحيل السينمائي «نبيل المالح» الذي عشنا عقداً من الزمان في اليونان، نعارك الحياة ونبحث عن الجديد، كان يشاركنا الإبداع الذي لن نفلت من أنامله الساحرة المخرج والمونتير «مروان عكاوي» أطال الله في عمره. فصارعنا الحياة وبحثنا عن سينما جديدة!
نبيل المالح شخصية مدهشة حقاً، موهبة غير عادية. فهو شاعر وله ديوان شعر، لم يطبعه، وشاعر مرهف، وأهم من ذلك فإنه رسام خارق الموهبة ومصمم، قليلون يرتقون إلى موهبته. له لوحات يتمنى المرء أن يحتفظ بها في بيته. عرفناه بعد أن تخرج من أكاديمية السينما في جيكوسلوفاكيا السابقة وأخرج فيلمه الروائي الأول «الفهد» عن رواية لحيدر حيدر، ثم توالت افلامه بعد النجاح الذي حققه في هذا الفيلم وهو من مونتاج صاحب الأنامل الذهبية «مروان عكاوي» أخرج بعد فيلم الفهد، فيلم «السيد التقدمي» وهو فيلم ذو نزعة سياسية، وبعده أخرج فيلم «بقايا صور» ثم فيلم «كومبارس» الذي يشكل خطوة متقدمة في مسار سينما نبيل المالح واستخدامه للغة التعبير السينمائية. قام ببطولة الفيلم الممثل الموهوب «بسام كوسه». لنبيل المالح أعمال لا يحب الإشارة إليها عندما تجرى معه المقابلات فإنه يعرف أن مسار الحياة قد تدفع بالمبدع إلى ما لا يريده وما لا يتمناه. ولكن هذا لا يقلل من أهمية موهبة نبيل المالح الذي عندما تم تكريمه في سوريا رفض التكريم وصعد إلى المسرح وقال أنا يكرمني شعبي!
اضطر للهجرة إلى دبي وعاش قرب بناته اللتين تقيمان أسريا في دولة الإمارات.
لا يعرف الكثيرون أن آخر عمل لنبيل المالح الذي لم يصرح به هو فيلم «وليمة صيد» وهذا الفيلم لعب فيه ممثلون من بريطانيا، وكان للمونتير والسينمائي الصديق العزيز «مروان عكاوي» الذي لا يزال مقيما في اليونان ويحمل الجنسية اليونانية، دور في هذا الإنتاج لكونه متخرجا من بريطانيا، وله علاقات ثقافية وسينمائية هناك. هذا الفيلم تناول فيه السينمائي الراحل «نبيل المالح» قصة سياسية ذات دلالة ولكن بأسلوب اعتمد «التشويق» والمطاردة، ولكن بصيغة سياسية سلط الضوء على شخصية مخابرات عربية يتعامل مع الأمريكان بطريقة سرية من أجل إنقاذ بلده من سلطة الدكتاتور، وفي غمرة تعامله الخفي يسقط في الطريق ضحايا أبرياء بسببه وبسبب تحقيق هدفه السياسي. هو موضوع حساس وخطير، ومع أن الفيلم لم تكتب له بعد كلمة النهاية في نهايته، إذ تعثر بإنتاجه المنتج، نستطيع القول إن الفيلم يمكن مشاهدته ويمكن أن تشتريه إحدى القنوات التلفزيونية الآن فهي لا تحتاج سوى أن ترسم في نهاية الفيلم كلمة «النهاية»!
السينمائي العربي، والسينمائي الموهوب، والسينمائي صاحب القضية والموقف، كثيرا ما يشعر بالحيف، ونبيل المالح هو المخرج الذي شعر بالحيف، ما أن يريد أن يقول المخرج كلمته في الواقع الاجتماعي بحرية حتى تشهر في وجهه سيوف التهديد وخناجر الوعيد، فيضطر للهجرة والهروب من الواقع، وحتى يؤسس سينما مهاجرة ومرتبطة بالوطن أو الأوطان فإنه يحتاج إلى أن يبدأ من جديد، وشروط الغربة وشروط بداية البداية دائما تكون صعبة ومدافة بالحيف والقهر. كان «نبيل المالح» يشعر بهذا الحيف ويشعر بهذا القهر، وهو محمل بالمخزون الإبداعي حقاً فهو الشاعر المرهف والرسام المبدع والسينمائي الذي لم يحقق حلمه مع أفلامه الجميلة والمتميزة ولكنه كان أكبر من أفلامه سينمائيا .. رحل ولم يكتب على فيلمه الأخير «وليمة صيد» كلمة النهاية.
كنت أريد لوحة يرسمها لي «نبيل المالح» فأنا أهيم عشقاً بلوحاته، فأعطيته شعراً وددت أن يرسمه لي لأحمل اللوحة معي أينما ذهبت وأضعها دائما أمامي في هذا العالم الخائب والمتلون والغادر، فرسمها بشكل مدهش، هي مقطع من قصيدة أحمد عبد المعطي حجازي «مرثية لاعب سيرك» يقول فيها:
في العالم المملوء أخطاءَ
مطالب وحدك أن لا تخطئا
لأن جسمك النحيل،
لو مرة أسرع أو أبطأ
هوى وغطى الأرض أشلاءَ
لقد رسم لي نبيل المالح هذه القصيدة بلوحة تخلب الألباب وتحذرني من السقوط في هذا العالم المليء بالأخطاء والخطايا، وأن أكون يقظا كما لاعب السيرك، في حركة الحبال المتدلية من خيمة هذا العالم!