د.عبدالله مناع
بعد الخذلان الذي انتهت إليه تجارب (العرب) الطويلة مع الرئاسات الأمريكية المتعاقبة بعد الحرب العالمية الثانية.. و(الديمقراطية) المرجوة منها على وجه الخصوص: بداية من أيام (ترومان) المنحازة والمتآمرة على الحق العربي في (فلسطين).. إلى أيام «كارتر» المتحمسة لـ(السلام) بين العرب وإسرائيل..
إلى أيام «كلينتون» المترددة في مواقفها.. إلى أيام «أوباما» الباكية من ظلم وذل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.. فقد هبط اهتمام العرب إجمالاً - باستثناء المتأمركين منهم - بـ(الانتخابات الأمريكية)، سواء (التمهيدية) منها كالتي تجرى هذه الأيام.. أو (النهائية) التي ستجرى في الثامن من شهر نوفمبر المقبل، وما تسفر عنه من نتائج.. سواء أوصلت مرشحاً (ديمقراطياً) يؤمن بالعدالة والمساواة وحقوق الأقليات.. أو (جمهورياً) يؤمن بالحروب ويحلم بالنفط ويتاجر بالسلاح.. إلى سدة البيت الأبيض وحديقته الخلفية ومكتبه البيضاوي وهاتفيه: الأحمر والأخضر..!!
فـ(العرب).. لم يجدوا فارقاً بين الرئاسات الأمريكية عموماً والرئاستين «الديمقراطية» و»الجمهورية» خصوصاً؛ فكما أن رئاسة ليندون جونسون (الديمقراطية) جاءت بـ(العدوان) الإسرائيلي على مصر واحتلال سيناء والجولان و(الضفة الغربية) الفلسطينية في الخامس من يونيه/ حزيران من عام 1967م، وهي تمده بالمال والسلاح والمواقف في الجمعية العامة ومجلس الأمن.. فعلت رئاسة بوش الابن (الجمهورية) ما هو أسوأ، عندما انقضت بكل قواتها البحرية والجوية والبرية على (أفغانستان) المحدودة المساحة والقليلة العدد والعتاد والضامرة في إمكانياتها الاقتصادية.. لـ (احتلالها) عام 2002م.. رداً على نسف برجي التجارة العالميين في نيويورك، ثم أعقبته في عام 2003م بـ(احتلال) العراق.. طمعاً في نفطه وتدميراً لقواه العسكرية لصالح إسرائيل؛ ولذلك لم يعد يهم العرب هذه الانتخابات إجمالاً.. كما قلت، أو ما ستسفر عنه من وصول (الديمقراطية) هيلاري.. أو (الجمهوري) دونالد.. المتنافسَين اللذَين أفرزتهما نتائج انتخابات (الثلاثاء الكبير) التمهيدية.. بفوز كل منهما بسبع ولايات من إحدى عشرة ولاية؛ وهو ما يعني بالضرورة مواصلتهما السباق الرئاسي إلى نهايته، إلا أن يقفز.. في يونيه القادم المرشح الديمقراطي الثاني المحتمل (بيرني ساندرز).. بفوز ساحق في الولايات الثلاثين التي ستجرى الانتخابات التمهيدية فيها بين كل المرشحين: ديمقراطيين وجمهوريين..!!
* * *
على أي حال.. ومن خلال متابعتي الشخصية لسيرورة الانتخابات التمهيدية في محطاتها الخمس.. دون خشية أو أمل، التي انتهت مرحلتها الأولى يوم الثلاثاء الماضي.. في انتظار مرحلتها السادسة الأهم في شهر يونيه القادم، فمرحلتها النهائية الحاسمة في شهر يوليه الذي يليه.. فإن (دونالد) و(هيلاري) - وكما يلوح من نتائج انتخاباتهما التمهيدية - هما الأقرب لمواجهة ملايين الناخبين الأمريكيين في الثامن من شهر نوفمبر القادم.. ليفوز أحدهما: بلقب الرئيس الخامس والأربعين لـ(الولايات المتحدة الأمريكية). وكلاهما لا يعنيان في الحقيقة.. إلا استمرار غياب الولايات المتحدة عن دائرة الفعل الكوني المؤثر؛ فـ(دونالد ترامب) الملياردير العنصري المؤمن بمبادئ (حركة «كوكلاكس كلان» العنصرية التي ترى تفوق العرق الأبيض)، الذي اقترح منع دخول المسلمين إلى أراضي الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث باريس الإرهابية، وبناء جدار فاصل على الحدود الأمريكية المكسيكية، يفصل بين المكسيك وأراضي الولايات المتحدة.. لمنع تسلل وتسرب المكسيكيين إلى الأراضي الأمريكية.. والعقاري الذي عاش حياته (السابقة) وسط المباني والأراضي والعقارات والحديد والأسمنت.. وبيع هذه الأرض، وشراء تلك، لن يكون في رئاسته للولايات المتحدة - إن تحققت - بأفضل من صنوه الجمهوري: الفنان (رونالد ريجان).. الذي عاش حياته السابقة كلها وسط الممثلين والمخرجين والمصورين والسينمائيين، ليجد نفسه.. بلعبة الديمقراطية - كما يقول الأشقاء التوانسة - والحملات الانتخابية، والوجاهة السينمائية.. رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية وسط عالم من الساسة والأحزاب والرؤى والأفكار.. غير عالم الفن، الذي عرفه وعاشه وأحبه لأكثر من سبعين عاماً، فكان أن استعان بـ(منجمة) تقرأ له طالعه كل يوم، وترسم توجهاته.. كل صباح!!
أما السيدة هيلاري.. التي تمتعت بلقب (السيدة الأولى) طوال ثماني سنوات أقامتها مع زوجها الرئيس (بيل كلينتون) في البيت الأبيض.. بين عامي 1992م - 2000م، والتي عز عليها مغادرته.. مع حكايات (لوينسكي) التي أشعلت في قلبها شعوراً متزايداً بـ(العظمة المصطنعة) أو البرانويا، فلم يكفها (تعويضاً) حصولها على عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي أو - حتى - على منصب وزير خارجية في إدارة أوباما.. وظلت تسعى قبل وبعد ذلك للرئاسة الأمريكية؛ لتكون (هي) الرئيس - أو الرئيسة على وجه الدقة - الخامس والأربعين، ويكون زوجها هو (السيد الأول)!! وكما كانت هي (السيدة الأولى) وزوجها هو الرئيس الثاني والأربعين!! لتصبح حالتهما - إن تحققت على أرض الواقع - هي الحالة الأولى وربما الأخيرة في تاريخ البيت الأبيض الأمريكي..!؟ فطموحها ودأبها وسعارها نحو الأضواء والمناصب لا حد لها.. إلا أن إدارتها للخارجية الأمريكية طوال السنوات الأربع الأولى من إدارة الرئيس أوباما كانت (باهتة)؛ لم تترك خلفها أثراً ولا بصمة، فلم تكن - حتى - كـ(كونزاليزا رايس).. بقدر ما كانت كـ(جيرالد فورد) في دورة رئاسته (التكميلية).. بعد إقالة رئيسه ريتشارد نيكسون، وهو ما ستكون عليه صورتها في إدارة البيت الأبيض إذا بقي التكتل الانتخابي في دعم حملة وصولها إلى البيت الأبيض على ما كان عليه يوم (الثلاثاء الكبير)..؟
* * *
فرغم طلاقتها وحضورها متحدثة - كما قالت عنها طالبات جامعة الملكة عفت في جدة عند زيارتها لهن خلال توقفها في (المملكة) على طريق عودتها من جنوب شرق آسيا - فإن وزيرة الخارجية السابقة لم تكن لتملك ذاكرة سياسية توازي طلاقتها في الحديث.. بدليل أنها تذكرت بعد فوزها التمهيدي في ولاية (نيفادا) أنها (مرشحة رئاسية)، وأن عليها أن تدلي بآرائها ووجهات نظرها حول القضايا الدولية الكبرى، ولم تكن هناك من قضايا دولية كبرى تتقدم سواها إلحاحاً.. غير قضيتي: مكافحة (الإرهاب) والتصدي له دولياً، وأزمة تطبيق مبدأ (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام) الفلسطينية والإسرائيلية.. أي الاعتراف بـ(الدولة الفلسطينية) على حدود الرابع من يونيه من عام 1967م، الذي لا يزال متعثراً منذ إطلاقه أمريكياً عام 2002م، وإجماع العالم عليه دولياً عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن.. لتدلي السيدة هيلاري بـ(تصريح) استعلائي بـ(أن الفلسطينيين يستحقون إقامة دولة لهم)!! و(أنها تؤيد تحقيق مبدأ حل الدولتين).. لتبدأ بعدهما الخوض في سلسلة من الأكاذيب، لا تليق بمرشحة لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، عندما قالت بـ (أنها حاولت خلال شغلها منصب وزير الخارجية دفع كافة الجهود لتحقيق هذا الهدف)..!! ولم يكن ذلك صحيحاً إطلاقاً.. استناداً إلى ما كتبته شخصياً في (مذكراتها) بعد مغادرتها الخارجية الأمريكية، التي أصدرتها لها بعنوان (خيارات صعبة) دار (سيمون آند شاستر) في شهر أغسطس من عام 2014م.. عندما قالت عن حضورها في منتصف شهر سبتمبر من عام 2010م لأول محادثات تعقد بين نتنياهو (خليفة أولمرت) والرئيس محمود عباس في (القدس): (كان من قبيل المفاجأة بالنسبة لي أن أرى العلم الفلسطيني ذاته بألوانه السوداء والبيضاء والخضراء والحمراء منتصباً إلى جانب علم إسرائيل بلونيه الأزرق والأبيض)!! وكانت قد أشارت في سطور سابقة وهي تتحدث عن (العلم الفلسطيني) إلى أنه محظور رفعه في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة (لأن بعض الإسرائيليين يعتبرونه رمزاً للإرهاب والمقاومة)..!!
ثم انطلقت تلك المحادثات بحضورها إلى أن اختلف الطرفان حول وقف الاستيطان الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية: أي أراضي الدولة الفلسطينية، الذي يرى (نتنياهو) أن يكون لعشرة أشهر، بينما يرى الرئيس عباس أن يكون وقفاً إلى الأبد طالما أنه تم الاتفاق بين الطرفين على (حل الدولتين).. بينما تحولت (هيلاري) إلى (بكماء) لا تسمع ولا تتكلم، لتدعي الآن بأنها (حاولت دفع كافة الجهود).. بينما الحقيقة أنها عطلت بـ(صمتها) كافة الجهود.. لتنفض تلك المحادثات وينصرف الطرفان..!!
* * *
إن هذه (الأكاذيب) أو (المراوغات)، التي تمارسها السيدة هيلاري، والتي قد تنطلي على العامة.. تشبه اندفاعات دونالد وانعزاليتها.. لا تفرش بقية طريق الوصول إلى البيت الأبيض أمامهما بـ (البساط الأحمر) أو الأخضر، ولكنها تضع بذوراً للشك في قدرة كليهما على إدارة البيت الأبيض وسياساته.. قد تطيح بهما وبأحلامهما غير المأسوف عليها؛ فقد بات يقيناً: أن زمن الرئاسات العظيمة.. قد ولى وانتهى..!!