عبد الله باخشوين
.. هل انتهى ((الشعر الحر)) أو ((الحديث)) بشقيه ((التفعيلي)).. و((النثر)).. بعد مرور مالا يقل عن ستين عاماً على ولادته في ساحة الثقافة العربية ووصوله لمرحلة الهيمنة على أدوات وأساليب القول الشعري من مشرق إلى مغرب مراكز النشاط الثقافي العربي.
رغم التململ والرغبة في الإنكار ومحاولة إيجاد المبررات والأعذار إلا أن هذه الحقيقة لا بد من الاعتراف بها..لأسباب جوهرية لا يمكن إغفالها والتي من أهمها.. سقوط وزوال الأسباب التي أسهمت بشكل كبير في نمو وصعود مختلف أساليب القول الشعري الحديث.. فمن المعروف أن الحركة الشعرية الجديدة منذ انطلاقها في منتصف أربعينات القرن الماضي.. ربطت نفسها بحركة التحرير العربي.. وجعلت إنجازها يتمحور شكلاً ومضموناً حول مختلف مفاصل وتيارات حركة التحرير من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.. أي أنها ربطت إنجازها الفني بتقلبات وتحولات الممارسة السياسية في كل الأقطار التي نمت وتطورت فيها.. وحتى في محاكاتها لأساليب القول الشعري العالمي الذي ولدت ونمت في ظلة قصيدة النثر العربية.
لكن في الوقت الذي كنا فيه نجد أن الأنظمة السياسية بأيدلوجياتها الجديدة تقوم باحتضان حركة الشعر الحديث وترعى شعرائها.. فإن هذا كان يتم خارج أسوار التعليم بشقيه الأساسي والجامعي أيضاً.. الأمر الذي جعلنا نجد أن كل أبناء الأجيال الجديدة تنمو وتكبر وتتشكل ذائقتها الشعرية بتأسيس يقوم على موروث الشعر العربي التقليدي الذي يمثل الإرث الحضاري العربي العتيد.
وظل إنجاز الشعر الحديث.. حاله كحال الأيدلوجيات العربية الجديدة هو اجتهاد فردي وثقافة أو ثقافات ذاتية.. تشكلت ونمت وتصارعت واختلفت في محاورها الفردية.. ثم ذبلت وسقطت وانتهت حتى قبل سقوط ونهاية الانقلابات التي تبنتها ورفعت شعاراتها.. وبالتالي فإن هذا كان بمثابة حكم نهائي على كل ما أفرزته تلك الأحزاب وتلك الانقلابات من حركة ثقافية تستلهمها وتتبنى أطروحاتها.
طبعاً هذا لا يستثنى حركة النقد والدراسات الشعرية التي رافقتها وتبنت مشروعها الفني ونظرت وحللت مضامين القصائد وكل ما جاء في طيات الشعر الحديث من إبداعي وهامشي على السواء.
بل ويمكن أن نلقى باللوم على ذلك النقد الذي لم يذهب لأبعد مما أراد له النص أن يقول. فقال ما يريد النص لا ما يذهب إليه الفن والإبداع.. وهو أمر دفع لتكريم النقد وتقديمه على الشعر الذي أنتجه وكان السبب في وجوده.
وإذا كنا نرى أن هناك كساداً كبيراً في سوق مبيعات الشعر الحديث والنقد الذي ينظر له.. مقابل عودة الشعر التقليدي للساحة بإقبال مضطرد.. فذلك لأنه مازال يستجيب لقاعدة الذائقة العامة التي تربت عليها الأجيال في نصها التعليمي الموروث بعيداً عن غموض وتعقيدات الشعر الحر وقصيدة النثر.
وللحق فإن نهاية الشعر الحديث تمت بطريقة سريعة جداً.. بل هي أسرع كثيراً مما كان متوقعاً.. لأن نهايات التيارات والحركات الفنية والإبداعية في مختلف أنحاء العالم.. تصمد أمام التيارات الجديدة فترة تصل إلى نحو خمسة وعشرون عاماً تصارع خلالها للبقاء وتسعى لتطوير معطياتها قبل أن تنهار أمام الجديد.. غير أننا في الثقافة العربية نمثل حالة خاصة.. لأن حركة التجديد الفني والإبداعي ربطت نفسها بحركة التحرر العربي وتلاشت وانتهت مع انهيار وسقوط مختلف تياراته.. وعدنا أو كدنا نعود إلى نقطة الصفر.. ونحتاج لسنوات طويلة قبل أن تفرز تطورات وتحولات العالم العربي ما يمكن أن يستلهم منها إبداعاً جديداً يحمل هموم وطموحات الإنسان العربي ويعبر عنها بطريقة تستجيب لما يصطخب في وجدانه وتتفاعل مع أحلامه وتطلعاته. خاصة وأننا تجاوزنا مرحلة هيمنة الأدب والكتابة والكتاب بشكل عام.. ولم تعد القراءة هي وسيلة الثقافة أو التثقيف الأساسية التي يعتمد عليها الإنسان ويبلور من خلالها مداركه العلمية والحضارية.. ووصلنا إلى مرحلة فتحت فيها كل الأبواب وأصبح التدفق المعرفي بكل فروعه يتدفق بشكل غير مسبوق لكل الفئات والطبقات بطريقة تمكن الأذكياء والمثابرين من الاستفادة منه واستثماره وفق رغباتهم وأهوائهم وتطلعاتهم.. دون الخضوع لأطروحات تيار أو حركة أو حزب.. وهذا يجعل مهمة الأدب والشعر والنقد مهمة صعبة ومعقدة.. فحتى جائزة نوبل الأخيرة خرجت عن الإطار التقليدي ومنحت لكاتبة عملها الجوهري في التحقيق الصحفي وليس الروايات والملاحم الرومانسية.. وأعطيت لكشفها وإضاءتها للحقائق وليس لقيمته الإبداعية التقليدية المألوفة في حيثيات الجائزة.
طبعاً أنا لا أدري كيف يجب أن تكتب القصيدة الجديدة أو النقد والدراسات الشعرية التي تستحق التكريم والقراءة في المرحلة الحالية لكن إشكالات الواقع الجديد الذي نشهده منذ أكثر من عشر سنوات لم تفرز شعراً أو نقداً مواكبا له يعبر عن تناقضات كل وجدان الإنسان العربي.. أو يقترب من همومه وأحلامه التي تحفل بالتباسات شائكة ومعقدة لا يمكن التعبير عنها بلغة الشعر والنقد المتداولة حالياً.