ياسر حجازي
1
معلوم أنّ أبا حامد الغزالي وأتباعه في سبيل مناصبة العداء للمنطق والفلسفة، ذهبَ إلى سرد وهمي يُوحي به أن هدفه وضع تعريف للإيمان، وهو بهذا التعريف إنما أراد أن يقضي على المنطق بحجّة لا - منطقيّة تستند إلى حالة خاصّة به أراد تعميمها؟ وذلك في حكايته التي نفى بها العقلانية عن الإيمان غاية في نفي الإيمان عن العقلانية
ولم يكن مقصده تفكيك الإيمان وتعريضه للشكّ العقلاني؛ وهو بهذا التعريف تعرّض للإيمان أكثر من تعرّضه للفلسفة ولم يقع في عقله لتغييبه تحت تأثير عداء الفلسفة وأوهامه أنّ الحجّة عليه وليس له؛ فما أعنف ما يفعله الوهم بصاحبه وما أوهى حجّته...
والحكاية إذ تبدأ بنفي قدرة العقل على الإيمان وتنتهي بتعريف غيبي قدري (الإيمان نور يقذفه الله في القلوب) فإنّه بذلك يمضي باتجاه الجبرية، وفي ذلك مخالفة للمتن: حرفه ومضمونه، لأجل إثبات صحّة أوهامه؛ وهذا التعريف وما يقع في حكمه من الخطورة أنّه: ينفي حرية الإيمان والكفر عن الإنسان، ويقضي على أيّ فرصٍ للتعايش والتعدّد والمساواة، ويفتح باباً للشك في الاختيار والتقرير والعقاب والثواب، وهو بهذا التعريف قد ورّط نفسه تحت تأثير الوهم ومناصبة العداء للفلاسفة أن خالف المتن القرآني الذي ربط الإيمان بالعقلانية.. وصولاً إلى عنف فتوته: «تمنطق تزندق».. ورغم تخبّطات أبي حامد الغزالي في الفلسفة ثمّ تخبّطات أخرى بين طائفة من المذاهب والتصوّف إلاّ أنّ فتوته حظيت بقبول واستخدام لدى السلطات السياسيّة واستمرّت باستخدامها حتّى غدت من المسلّمات، وقد قضت على رؤوس الآلاف، وما زالت شاخصة يتأثّر بها العديد من المذاهب ويقترضونها قرضاً مضاعفاً في سبيل استغلالها سياسيّاً واستبداديّاً.
2
المعضلة الكبرى مع الوهم (أو قوّة الوهم) أنه جزءٌ من الوعي، أنّه ليس شيئاً آخر خارج الوعي؛ فتأمّل صراع الوعي إنّما هو صراع مع نفسه؛ بعض الوعي ضدّ بعضه، وهكذا دواليك في عملية مستمرّة إذا ما توقّفت تعطّل صاحب هذا الوعي بمسلّماتٍ، عادة ما تجعله غير مؤهّل للتعامل مع محيطه المادي المتقلّب.
وفي المقابل فإنّ قوّة الوهم واهنة، بحيث إنّها لا تصمد أمام التجربة والإثباتات الماديّة.
3
ليس للحدث وعي مستقلّ به حتى يظهر الوهم عبره، إنما رؤية الإنسان للحدث هي القابلة على حملان الوهم، وتحديداً، ما نلزمه على أنفسنا من تفسير لحدث أو سلسلة من الأحداث العشوائيّة بطبيعتها، ثمّ نقدّمها على أنّها متوالية وحكاية مترابطة ذات معنى خصوصيّ؛ وهذه الحكاية والمعنى المفترضان قد لا يراهما غيرنا نظراً لعدم وجود الحكاية دون تأويلنا للأحداث وإنتاج الحكاية، ونظراً لوجود غيرنا ممّا لم يلزم نفسه بما ألزمنا به أنفسنا من معان وحكايات هي من خارج الحدث وقريبة من الوهم.
4
الوهمُ تأويلٌ لأحداث وتركيبٌ لمعانٍ تسلسليّة وسياقات ليس لها إثبات سوى التصوّر والافتراض والتسليم؛ وهي بحال لا تصمد أمام التجربة، فهل من عاقل يظنّ بأنّ الحدث حين يقعُ يعلمُ مسبقاً حتميّة سياق المعاني التي يفرضها وقوعه عبر سلطة وَهْمِ هذا المؤوّل أو ذاك؟!
5
حتّى النوايا الطيّبة لا تُفضي إلى صلاحٍ إذا كانت فاسدة وموهومة!؟ بل، لعلّ الكثير من المآسي والخراب لحق العربيّ تحت قرارات كارثيّة رغم النوايا الحسنة لأصحابها، أنّها مرضاة الله، أو هي في سبيل الوطن مثلاً؛ وكلا التجارب التي استبدّت لأجل أوهام سياسيّة - دينيّة أو وحداويّة إنّما وقعت في الوهم نفسه حينما أباحت لنفسها أن تفعل ما تشاء لأجل غايتها، (وقد تكون الغاية نبيلة كمصلحة وطنيّة ما) وكم تحت هذه الغايات أوجد الاستبداد مكانه وقضى على حقوق الفرد وحريّاته، حتّى بات المرء لا يأمن من موهوم يأتيه لينفّذ بيديه (أقوى الإيمان) متجاهلاً وجود القوانين والدولة.
6
هذا القاتل اليوم أو ذاك، قاتل أبيه، قاتل أمّه، قاتل أيّ بريء (أو ذنبٍ أيضاً) الذي يمارس القتل بيديه على أنّه (أقوى الإيمان) لأن تصوّراته للدين تبيح له أن يرى تصوّرات أبويه مختلفة، إذ سألته، قال الوهم الذي تعوّده - عوّده أبواه. قال الوهم الذي تعلّمه - علّمته إياه المدرسة. قال الوهم الذي التزم به - ألزمته به سطوة المجتمع الغارقة تحت استبداد الأوهام.
فأليس في هذا التباس واضح لعمل الوهم في الوعي الديني: أن يزوّر حقيقة القتل ويحولها إلى عملية أخلاقيّة ودينيّة.
هذا الاستحضار ليس دفاعاً عن نفسياتهم ونواياهم وتقاهم فتلك تخصّهم، يخصّنا أنّنا متأثّرون بهذه العمليات التي تهدّد السلم الأهلي وتردّ بالإنسان إلى ما قبل التعايش والتعدّد، وتبقى تحت تفسيرات دينيّة يستغلّها الإرهاب ولا يجد ما يردعها؛ ولذلك فإنّ المسألة تتطلّب إخضاعها إلى جذرها التشريعي والتعليميّ: أنّك تحتاج في هكذا ظروف إلى تشريعات تمنع تنفيذ مقولات التراث وما ينسب إليه تحت أيّ ذريعة، وتعيد كلّ سلطة مأخوذة باسم الدين إلى سلطات الدولة، فأوّل حقوق الأفراد هو عدم التدخّل بشؤونهم بما يحفظه القانون، وكلّما تحقّق ذلك وارتفعت نسبته، كلّما قلّت أوهام المجتمع وقلّ إمكان تداخل السلطات ومنازعاتها. فالفرديّة لم تعد قابلة للمحو - وإن رضيت وتنازلت - فحقوق الأفراد جزء من حضارة الإنسان المعاصر.
7
حتّى الصدق لا يسلم تحت سيطرة استبداد الوهم أن يكون كذباً، حينما يدخل من باب الطاعات، ويدخل من باب الإفراط في الحبّ والدروشة، يدخل من باب تجميد وظيفتي التأمل والعقلنة في الوعي وإيقاف الصراع الداخلي للوعي بين الوعي العلمي والوعي الوهمي، فالطاعة ليست كافية لأداء عمل صالح.
يُبرّرُ الوهم لأصحابه كلّ شيء لا - أخلاقي: (بمعنى غير واقعي وغير عملاني أو غير قانوني) وقد لا يرون هذا التعارض الذي أحوجهم للتبرير، لطالما هم ينكرون ضرورة الواقع ولا يعترفون بقوانينه، لأجل مفاهيم أخلاقية غير قائمة في الواقع إلاّ في عالم أوهامها.
* كيف يمكن أن تنتمي إلى هذا العالم إذا غلبكَ الوهمُ؟! ذاك قرارُكَ في الغياب عن العالم بمفردك، ولكن، حذاري أن يكون في قرارك ما يؤذي غيرك ممّن ينتمون، أو أرادوا أن ينتموا للعالم.